الوصية الثانية من الوصايا القرآنية العشر الإحسان للوالدين.
بقلم : د. عمرو حلمي
أعزائي القراء لقد تناولنا في المقالات السابقة مفهوم الوصايا العشر إجمالا , وأهميتها, الوصية الأولى .
وفي هذا المقال نستكمل الحديث عن : الوصية الثانية من الوصايا القرآنية العشر.
الوصية الثانية : الإحسان للوالدين. قال تعالى :{وبالوالدين إِحْسَاناً}
أما الوصية الثانية: في قوله تعالى:{وبالوالدين إِحْسَاناً}أي: أحسنوا بهما إحسانا كاملاً لا إساءة معه.
وقد قرن سبحانه هذه الوصية بالوصية الأولى التي هي توحيده وعدم الإشراك به، في هذه الآية وفى غيرها، للإشعار بعظم هذه الوصية وللتنبيه إلى معنى واحد يجمعها مع الأولى وهو أن المنعم يجب أن يشكر؛ فالوالدان سبب فى حياة الولد فيجب أن يشركهما ويحسن إليهما، والله تعالى هو الخالق المنعم فيجب أن يُشْكر ويُفَرد بالعبادة والطاعة.
قال بعض العلماء: وقد جاءت هذه الوصية بأسلوب الأمر بالواجب المطلوب وهو الإحسان إلى الوالدين، ولم تذكر بأسلوب النهى عن المحرم وهو الإساءة، سموا بالإنسان عن أن تظن به الإساءة إلى الوالدين، وكأن الإساءة إليهما، ليس من شأنها أن تقع منه حتى يحتاج إلى النهى عنها، ولأن الخير المنتظر من هذه الوصية وهو تربية الأبناء على الاعتراف بالنعم وشكر المنعمين عليها إنما يتحقق بفعل الواجب، وهو الإحسان لا بمجرد ترك المحرم وهو الإساءة. ولهذا وذاك قال سبحانه:{وبالوالدين إِحْسَاناً}.
إن بِرَّ الوالدين هو أقصى درجات الإحسان إليهما. فيدخل فيه جميع ما يجب من الرعاية والعناية، وقد أكد الله الأمر بإكرام الوالدين حتى قرن الله سبحانه وتعالى الأمر بالإحسان إليهما بعبادته التي هي توحيده والبراءة عن الشرك اهتماما به وتعظيما له.
لقد حرص الإسلام على بر الوالدين وقرن طاعتهما بطاعة الله، بل وجعل إحسان المرء لوالديه من أعلى درجات الإحسان التي بها الأجر والسداد والتوفيق في الدنيا والآخرة، حتى وإن لم يكونا من المسلمين.
قد أكَّد الإسلام على بر الوالدين والإحسان إليهما في مواضعَ كثيرة في القرآن والسنة المطهرة.
كما أوْلى الإسلام العظيم مسألة بر الوالدين اهتماماً كبيراً فجعل أعظم البر وأفضل الأعمال بعد الصلاة المكتوبة هو بر الوالدين، وفي هذا إشارة ولفتة على عظمتها ودورهما الكبير في حياة الفرد، فهما من أنجباه وتكفلاه بالحب والرعاية والتوجيه والإرشاد، وهما من علماه فكانا له خير قدوة ودليل، وهما من رافقاه في مسيرته الصغيرة حتى ولج إلى حياة الكبار رجلاً راشداً له دوره ومكانته وأهميته.
كما يحصد المسلم ثمار برّ الوالدين في الدنيا قبل الآخرة، وإن كان أجر الآخرة أعظم، ومن أهم فضائل بر الوالدين على البارّ في الدنيا والآخرة.
إذ يعلو شأنه في الدنيا، ويطيب ذكره بين الناس. ويبارك الله له في عمره ورزقه، ويرزقه التّوفيق في حياته. تكفّر سيّئاته، وتضاعف حسناته، وينال رضا ربّه، ويدخله الله الجنّة بإذنه، وينجيه من النار، فرضا الله تعالى من رضا الوالدين، وبهما ينال العبد أجر الجهاد في سبيل الله، ففي الحديث الشريف : «أَقْبَلَ رَجُلٌ إلى نَبِيِّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ فَقالَ: أُبَايِعُكَ علَى الهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ، أَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ اللهِ، قالَ: فَهلْ مِن وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟ قالَ: نَعَمْ، بَلْ كِلَاهُمَا، قالَ: فَتَبْتَغِي الأجْرَ مِنَ اللهِ؟ قالَ: نَعَمْ، قالَ: فَارْجِعْ إلى وَالِدَيْكَ فأحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا
وهذا دليلٌ على أنّ إذن الوالدين شرطٌ لصحّة الجهاد، وأن القيام بشؤونهما وطاعتهما نوعٌ من الجهاد في سبيل الله.
وأما كيفية الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى الوالدين فتكون عن طريق برّهما باللّسان ويكون ذلك بالقول الكريم الطيّب، وتجنّب القول الذي لا يليق بحقّهما، وتجنّب التّعرّض لهما بالسبّ أو الشّتم، فيناديهما الابن بأحبّ الأسماء إلى قلبيهما، ولا يتكلّم بحضورهما إلّا عن علمٍ أو حاجةٍ، وإن كان معهما فعليه الحديث بأدبٍ ولينٍ وخشوعٍ. وهو أمر الله سبحانه لعباده، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيراً(24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأوَّابِينَ غَفُوراً(25)}[الإسراء(23-25)].
وبرّهما كذلك يكون بالعمل والجوارح ويكون ذلك بطول صحبتهما وملازمتهما، والإنفاق عليهما، وتيسير أمورهما، والقيام على شؤونهما، فلا يجوز للولد أن يخرج مسافراً إلّا بإذنهما، ومن طاعتهما بالجوارج إطعامهما، وإسكانهما، وقضاء حاجتهما.
ويتحقق برّ الوالدين عن طريق شكرهما على إحسانهما للأبناء، وبرّ خاصّتهما من الناس والإحسان لهم، والترحّم عليهما بعد وفاة أحدهما أو كلاهما، حيث يستمرّ برّ الوالدين حتى بعد موتهما، وذلك بالدعاء والاستغفار لهما على الدّوام، لقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ}.
وتكون مكانة بر الوالدين برّ الوالدين في الإحسان الأبناء لهما قولاً وفعلاً، بإحسان العشرة معهما وطاعتها بقدر الاستطاعة إلا في معصيةٍ، وهذا البرّ من أعظم القربات لله تعالى, وسببٌ من أسباب دخول الجنّة، وكسب رضا الله تعالى على العبد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله أحد الصحابة رضي الله عنهم : «يا نَبِيَّ اللهِ، أيُّ الأعْمالِ أقْرَبُ إلى الجَنَّةِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى مَواقِيتِها، قُلتُ: وماذا يا نَبِيَّ اللهِ؟ قالَ: برُّ الوالِدَيْنِ، قُلتُ: وماذا يا نَبِيَّ اللهِ؟ قالَ: الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ», حيث يأتي برّ الوالدين في المرتبة الثانية في الأهميّة بعد الصّلاة، ثم جعل الجهاد بعده في الفضل، وهذا الترتيب دليلٌ على أهميّة هذه العبادة العظيمة. ففي الحديث الشريف عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «سَأَلْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: أيُّ الأعْمالِ أحَبُّ إلى اللهِ؟ قالَ: الصَّلاةُ علَى وقْتِها، قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ برُّ الوالِدَيْنِ، قُلتُ: ثُمَّ أيٌّ؟ قالَ: ثُمَّ الجِهادُ في سَبيلِ اللَّهِ، قالَ: حدَّثَني بهِنَّ ولَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزادَنِي»
كما يعد بر الوالدين من كمال الإيمان، وهو من أحبّ الأعمال إلى الله سبحانه، وسببٌ في انشراح الصدر والنّور التامّ في الدنيا والآخرة.
والبرّ هو سببٌ لمغفرة الذنوب، للحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنه قال : «أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ فقالَ يا رسولَ اللَّهِ إنِّي أصَبتُ ذنبًا عظيمًا فَهَل لي مِن تَوبةٍ قالَ هل لَكَ مِن أمٍّ؟ قالَ: لا، قالَ : هل لَكَ من خالةٍ؟ قالَ: نعَم، قالَ: فبِرَّها».
وبالبرّ يُبارك الله تعالى للإنسان برزقه وعمره، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَرَّه أنْ يُعظِمَ اللهُ رِزْقَه، وأنْ يَمُدَّ في أجَلِه، فَليَصِلْ رَحِمَه», والوالدان من الأرحام.
وبالبرّ يفرّج الله كربة العبد ويقبل دعاءه؛ كما ورد في القصّة المشهورة للثلاثة الذين حُبسوا بالغار بسبب صخرةٍ ضخمةٍ سدّت عليهم الطريق، فكان دعاء الرّجل البارّ بوالدته سببٌ لانفراج هذه الصّخرة عن الغار وخروجهم منها، وبالبرّ يصلح الله تعالى للعبد في ذريّته، ويسبغ عليه صفةً من صفات الأنبياء عليهم السلام؛ قال تعالى واصفاً يحيى عليه السلام: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}.
فاللهم ارزقنا بر والدينا وارحمهما كما ربونا صغاراً.
وسنتعرف على الوصية الثالثة من الوصايا العشر في المقال القادم إن شاء الله