حسن إسميك: استعادة التراث ليس شرطا لصنع الحضارات
كتبت هدي العيسوي
قال الكاتب حسن إسميك، إن أهمية التراث وضرورة دراسته والتفكير فيه وتحليله ونقده لا ينكره عاقل، لكن بيت الداء يكمن في رفع مكانته إلى مستوى التقديس، ونزع السمة التاريخية عنه حتى صار لدى بعض دارسيه مطلقاً كالدين نفسه، خاصة في القضايا العقيدية والفقهية، حتى لقد عوملت أقوال بعض العلماء وآراؤهم معاملة القرآن الكريم والحديث والشريف حين استبدلناها بالاجتهاد، لنبني أحكامنا المعاصرة على ما قاله أسلافنا منذ ألف عام أحياناً.
وأكد إسميك، في مقال له بعنوان: “العرب ونوستالجيا الحضارة المفقودة”، أن تراث أمتنا غني ومهم، لكنه يفقد غناه وأهميته عندما نضعه في غير موضعه، وهذا ما حصل عندما زعمت فئة واسعة من مفكرينا ضرورة أن ينطلق أي مشروع إحياء حضاري معاصر من التراث ذاته، ويبدو هذا الكلام منطقياً وصحيحاً في ظاهره، ولكن خطورته وخطأه يكمنان في المغالطات التي ينطوي عليها، وأولها أن تراثنا ليس واحداً بل متعدداً ومتبايناً في بعض أجزائه تبايناً يصل لحد التناقض أحياناً، فإلى أي جزء من التراث نعود؟ إن الإجابة على هذا السؤال أودت بفكرنا المعاصر إلى الوقوع في أحد أكبر أخطاء قراءة التراث وفهمه، أقصد خطأ الانتقائية ونزع ما لا يمكن نزعه من سياقه التاريخي والاجتماعي الذي ورد فيه، ما أدى إلى استخلاص أحكام وصور مشوهة أحياناً ومبتسرة أحياناً أخرى لا تصلح لزماننا ولا تناسب حالنا بأي وجه من الوجوه.
وأوضح إسميك، أن من أخطر المغالطات التي تنطوي عليها الدعوة للعودة للتراث زعم بعض المفكرين أنه لا يمكن فهم حاضرنا إلا بالعودة لماضينا، وهذه أيضاً شبه مسلمة يؤمن بها كثيرون دون تردد أو مُساءلة، مشيرا إلى أنه يعتقد أنها خاطئة، بل وتخالف أحد أركان فلسفة المعرفة التي قامت عليها حضارتنا السابقة، إذ اشتهر عند فلاسفة العرب أن تحقق المعرفة يكون بقياس الغائب على الحاضر، ولذلك فمن يزعم أن فهم الحاضر لا يستقيم إلا بالعودة للماضي فإنه يقلب القاعدة السابقة رأساً على عقب، فيقيس الحاضر على الغائب، ويتوسل معرفة الحي من خلال الميت، ويستبدل الظن والتوهم بالحقيقة، وهذا أحد أهم الأسباب التي عطّلت العقل العربي لعدة قرون مضت، فكان ما كان من تخلفنا الحضاري بسبب جمود العقل وتعطله.
وشدد إسميك، على أن المغالطة الثالثة تتعلق بمفهوم الحضارة نفسه، فالحضارة ابنة زمانها ومكانها دوما، لا يمكن إحيائها إذا كانت بائدة، ولا يمكن استيرادها إذا كانت غريبة، لذلك فإن أي مشروع حضاري جاد ينبغي أن ينطلق من الواقع المتعين ذاته، ويكون محايثاً لثقافة وفكر الأمة في حاضرها تحديداً، ولا قبله ولا بعده، وعلى أيدي مفكريها وقادتها وفلاسفتها وسياسييها المعاصرين لزمانها، وهذا كله مما لا يتحقق عندما نعول على التراث ونتوسله ليكون الرافعة التي تنتشلنا من التخلف وتدفعنا للحاق بركب التقدم والتمدن.
وأكد أنه يرى أن لا مشكلة أبداً في أي مشروع حضاري يبني مقدماته على القطيعة مع التراث، شريطة أن نفصل هذا التراث عن الدين.