ابنة بائعة الخبز
الكاتبة..نجلاءمحجوب
تفتحت عيناي على صمود أمي أمام حياة قاسية وأعباء أثقلتها واضطرتها إلي اقتحام السوق ، والجلوس في زاوية حزينة تشبهها ، تبيع الخبز وبعض حزمات الخضار ، لتوفر أحتياجاتنا أنا وأختي هنية ، بعد ما فارق والدي الحياة بعد صراع طويل مع داء الصدر ، الذي خنق انفاسه حتي اصبح جثة هامدة ، تبللها دموع امي المكلومة ، ويداها
تتحسس وجهه عله لم يمت ، ضمتنا انا واختي إلى صدرها الدافئ ، واقسمت له
وهو نائم في سبات عميق انها ستعيش
على ذكراه ، وساعدونا الجيران وعتاولة السوق ، بمبلغ يساعد على وصول والدي لمثواه الأخير ، قضينا بعدها ثلاثة ايام حزينة ، تمطر مقلتي امي دون توقف ثم احتضنتنا وتوقفت عيناها عن ذرف
الدموع ، ولملمت احزانها وتلفحت بغطاء رأسها منتصبة فى شموخ وبدأت مشوارها مع الحياة وفي اليوم الأول تركتنا بالمنزل واخبرتنا أنها ستأتي اخر النهار وتركت لنا لقيمات يابسة امرتنا ان نبللها بقليل من الماء ، حتى نستطيع ابتلاعها ثم اخذتنا
فى اليوم التالي معها وجلست امي المسكينة فى انتظار من تبيع له بضاعتها
من الخبز وبعض حزم الجرجير والشبت هنية نائمة في حجر أمي ، تغمض عين والأخري تقاوم أن لا تغلق ، وانا اتمتم بأغنية وكلما هممت العب بجوارها لكزتني اجلسي ، حتى ذابت طفولتي فى وقار جلستها ، وتوشحت نفسيا بالسواد مثلها بذرت داخلي انا وهنية وعدها لوالدي
عندما اجلستنا يوما امامها فى حجرتنا
البائسة تحت بير السلم بعد عودتنا من
يوم شاق كانت الشمس تلفحنا فيه
بوهجها ، ولهيبها طوال اليوم ، اخبرتنا
اننا املها ، وانها ستتحمل المزيد مقابل
ان نلتحق بصفوف التلاميذ في الصف الابتدائي ، وقته شق النور الظلام
واستقبلنا الفجر ضيفا ، شعرت بسعادة
عبرت عنها بقفزات و فيض أحضان
وقبلات لأمى ، بينما كانت هنية لا تهتم
تقاوم النوم كعادتها بعين مفتوحة
وأخري ناعسة ، وبعد أيام التحقنا بصفوف التلاميذ ولكن لم تستطيع امي الصمود كثيرا تثاقلت الأعباء عليها
وفي يوم كانت تداري عينيها الماطرتين فلاحظت حالتها احدي زبائن السوق وكانت فى الخمسين من عمرها ويظهر
عليها الوقار تشتري بعض احتياجاتها
من السوق ، اقتربت من امي وهمست
لها تسألها ؟ عن سبب بكاءها وعندما
اخبرتها أمى بقصتها ، ابدت رغبتها فى مساعدتها وعرضت عليها عرض وافقت
امي عليه على الفور وهو بعد ان
تنتهي امي من عملها بالسوق مع
غروب الشمس ، تعمل ثلاثة او اربعة ساعات في دار المسنين الذي كانت
تديره هذه السيدة علي ان تعمل
عاملة للنظافة ومساعدة للمسنين
بأجر سيعينها علي الأعباء التي اثقلتها ، واخبرتها ان الدار علي بعد خطوات من السوق فسطعت ابتسامة على وجه امي
لم اراها مذ مات ابي كانت مديرة دار المسنين فريدة وجهها يفيض بالنور
تتساقط كلماتها الحانية وتخترق قلبي
ثم انار الأمل وجهي ، عندما ربتت علي كتفي ، واخبرتني انها ستهتم بدروسي
انا واختي حن قلب مديرة الدار فريدة لحالنا ، فوافقت امي ان تتركنا طوال
اليوم عندها في الدار بدلا من جلوسنا
فى وهج الشمس تقتلنا ، او رطوبة
حجرتنا البائسة تأكل اجسادنا ، وكادت الحياة تلملم قسوتها وترحل ، لولا أن
أصبت بصدمة هزتني بعنف زلزلت
كياني ، دهست امي سيارة مسرعة
وسلبت منها الحياة كنت انا فى
الصف الثالث الثانوي واختي فى
الصف الاول اعتنت فريدة بنا وضمتنا
فشعرنا بيد حانية تربط علي قلوبنا
بعد ان آلمتنا الحياة بقسوتها ، دون
شفقة ، اخذتنا انا واختي فى بيتها
الجميل الدافئ ، كل قطعة اثاث فيه
عريقة تشبهها ، واصبحنا ونس لها
وهي ام ثانية لنا ، فهي تعيش
وحيدة كانت مساعدة الاخرين
حياتها ولم تتزوج ، فأعتبرتني انا و
اختي بنتاها التي لم تنجبهما وتعلقت
بنا بشدة ووجدنا فيها حنان امنا التي رحلت رحيلا قاسي، يشبه حياة المعاناة
التي عاشتها كانت حياتنا مع امي الثانية فريدة حياة دافئة ، كانت تغرس بداخلنا معاني جميلة تحثنا علي مساعدة الغير وجعلتني مسئولة معها عن الدار ، مرت
السنوات واصبحت طبيبة فى احدي المستشفيات الخاصة ، ومسؤولة عن
صحة نزلاء الدار ، أما هنية فاصبحت مهندسة ، لانها كانت تحب الرياضيات وتزوجت زميلا لها في المكتب الهندسي التي سعت امي فريدة جاهدة لتكون
اختي من المهندسين التابعين له ،حتي تضمن لها مستقبل مبتسم ، ثم انشأنا
مستوصف ملاصق للدار وكانت سعيدة
جدا لانني ادخلت على الدار خدمات جديدة ، ورحلات للمسنين ، وفي ذات
يوم دق جرس الباب فإذا بشاب طويل القامة ، مفتول ، رأسه تلاصق برواز
الباب مباشرة ، ملامحه شرقية مشرقة
تخبر عيناه عن شئ لا اعرف ما هو ربما
اعجب بى اول نظرة ،سأل عن امي
فريدة ، فأخبرته ينتظر حتي اخبرها
بوجود ضيف يسأل عنها ، فدخل فى
نوبة من الضحك الهستيري ، اشعلت
داخلي غضب وددت لو اغلقت الباب عنوة في وجهه ، ونظرت خلفي صوت اقدام امي فريدة ، استيقظت ، فإذا بها تضحك ايضا
مما جعلني شعرت انه ربما يكون قريبها ،واخذ موعد سابق وانا لا
اعلم ، وعندما رآها عانقها بشدة ،ثم اخبرتني انه ابن اختها الوحيدة نوال
التي تعيش منذ سنوات طويلة خارج
مصر هي وزوجها ، وعرفته بي ، ابنتي الدكتورة نادية،شعرت وهو يتحدث انه الفارس الذي تتمناه أي فتاة ،تحدث عن رغبته فى اقامة مشروع ضخم
مستشفي تخصصي لأمراض الحساسية
والربو ،فتذكرت والدي الذي هزمه الفقر والمرض ، وابتسمت ابتسامة حزينة ،فى صمت دون ان اعلق ، بينما اثنت امي فريدة علي حديثه ، وابدت رغبتها في مشاركته بأسهم ، فى هذا المشروع الضخم ، وتكررت زياراته ، وخرجنا معا
اكثر من مرة ، وكانت امي فريدة تتعمد
ان تتركه يتحدث معي ، وهي في حالة صمت متعمد ، وفي ذات يوم اخبرتني
انها تريد التحدث معي في موضوع مهم
فشعرت ان دقات قلبي تحدث ضجيج وتوقعت انها ستحدثني عن ارتباط يجمعني بمعتز ، وكان توقعي صائب فأبتسمت خجلا ونظرت لعينيها تذكرت حنان امي ، ثم احتضنتني الأمومة
متمثلة فى حضنها الدافئ الحنون وتذكرت وقتها امى ،وتحدثت إلي نفسي
لو تعلمي يا امى ، ان القدر كان يخبئ
لنا كل هذا الفرح ، ما كنت بكيت يوما زفاف اسطوري ، كان زفافي بالدكتور معتز ، عشت معه اجمل سنين عمري وانجبت منه ولد وبنت طبيبان مثل
ابيهم بارين بي يحبوني بشدة مثله .
صدق الله عندما قال :
« وَاصْبِر لِحُكْم رَبِّك فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا »
وَقَال :
« إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا »
تَمَّت .