سعيد جويد يكتب: ضحكتها أنغام وورود (الجزء الأول)

(ذكرى رحيل السندريلا)
• مضى عشرون عاما على رحيل نجمة القرن الفنانة “سعاد حسني” رمز الجمال والأنوثة والبهجة والمرح – رحمها الله- عن عالمنا عن عمر ناهز 58 عاما بعد أزمة نفسية مريرة خيّمت على حياتها نتيجة للشعور بالوحدة والغربة والمعاناة مع المرض الأليم الذي أصاب عمودها الفقري، فاضطرت مسرعة إلى الفرار إلى باريس، ثم إلى العاصمة البريطانية “لندن” لتلقي العلاج، المدينة التي شهدت نهايتها المأساوية-سقوطها من شرفة شقة في الدور السادس من مبني ستوارت تاور في ظروف غامضة- في 21 يونيو، يوم ميلاد “حليم” الذي لفظ أنفاسه الأخيرة هو الأخر في نفس المكان، وهكذا كتب القدر لكل منهما نهاية تراجيدية واحدة، رحلة علاج طويلة في مدينة الضباب، تنتهي بالموت والعودة إلى أرض الوطن داخل صندوق من الخشب، ملفوف بعلم مصر.
وفاء وتضحية وعطاء بلا حدود
• أكّد الكثيرون من المشاهير من أمثال “سمير صبري” و”شويكار” وغيرهم من نجوم ونجمات الفن والمجتمع – المعاصرين لسعاد وحليم- في أحاديثهم التليفزيونية والصحفية حقيقة وجود علاقة عاطفية ومشاعر جيّاشة بين العندليب والسندريلا، حيث لفت اهتمام حليم بها وغيرته الشديدة عليها نظر المحيطين بهما ، أمّا بالنسبة لما أُثير من جدل حول زواجهما فلم يستطع أحد حتى الأن تأكيد هذه الحقيقة أو نفيها، ربما لنشأة “حليم” وتمسكه بتقاليد الريف التي قد تمنعه من الارتباط بفنانة تعمل في مجال التمثيل تبعا لما قيل على لسان الإعلامي المعروف “وجدي الحكيم” والفنانة “نادية لطفي” التي قالت أنّها لا تستطيع تأكيد أو نفي مسألة زواجهما العرفي، ولكنّ الزواج من وجهة نظرها (وجهة نظر نادية) ليس توقيعاُ على الورق، بل على القلب، إيجاب وقبول بالروح وليس بالحبر، وأضافت أنّ ما كان بين حليم وسعاد أكبر من الحب وأبقى من الزواج، ومن ناحية أخرى استبعد البعض الأخر حقيقة زواجهما نتيجة لطبيعة مرض “حليم”، وعدم قدرته الجسمانية- حسبما تردد على لسان البعض الأخر مثل الإعلامي “مفيد فوزي” والفنان “حسن يوسف” في حديث تلفزيوني له- على الزواج وعلى أداء العلاقة الحميمية بشكل طبيعي، نعم هذه هي حقيقة مرض “حليم” المعروفة للكثير من المقربين منه ، حقيقة مؤلمة لم تؤثر على رغبة “سعاد” في الزواج منه، مما يكشف النقاب عن رقتها وطبيعتها الرومانسية وصدق مشاعرها لحليم، وأكبر دليل على هذا شروعها في تقديم تضحية كبيرة بحقوقها الزوجية المشروعة من أجل حب روحاني لا يعرف المتعة الجسدية والشهوات الحيوانية، ومن جانبه لم يقبل “حليم” تضحية “سعاد” وابتعد عنها وحبها يجري في دمائه- من وجهة نظري- حتى لا يرتبط مصيرها بشخص مريض، كل منهما يسعى إلى التضحية في سبيل إسعاد الطرف الأخر، وفاء وتضحية وعطاء بلا حدود، قيم سامية لم يعد زماننا المادي يعرفها، الزمن الذي يبيع فيه الأخ أخاه من أجل الثروة والمال.
الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ
• من يتأمل السمات النفسية المميزة لشخصية كل من “حليم” و”سعاد” يدرك حقيقة التشابه الكبير بينهما سواء على المستوى الإنساني أوالمستوى الفني،حيث يتمتع كل منهما بفطنة وذكاء خارق بالرغم من عدم حصولهما على أي شهادات علمية نتيجة لعدم قدرتهما المادية على الإلتحاق بالدراسة النظامية في المدارس والجامعات ، ولكن التعلم الذاتي وخبرات الحياة العملية كانت بالنسبة لهما أكبر معلم،كما جمعت بينهما أيضا صفات إنسانية عظيمة أخرى مثل الكرم والسخاء والعطاء والتمسك بصلة الرحم والتودد للأهل والأقارب، أمّأ على المستوى الفني فلا يختلف إثنان على تمتعهما بقدرات متعددة، وموهبة ربانية فذة، وقامة فنية رفيعة المستوى، و كاريزما فريدة من نوعها ومكانة فنية كبيرة لا تقل عن مكانة “أم كلثوم” و”عبد الوهاب” و”فريد الأطرش” وغيرهم من الرموز وعمالقة الفن، ومن ثم تفوق كل منهما على نفسه في تقديم أعمالا فنية رائعة، أهم ما يميزها من وجهة نظري مصداقية الإبداع، ومصداقية التعبير على حد سواء، حقا أعمال فنية صادقة بعيدة عن السطحية والتصنّع والفبركة، والجدير بالذكر في هذا الصدد اختيارهما المتعمد في بعض الأحيان لأعمال ذات مضمون فكري عميق يعبر عن سيرتهما الذاتية والتجارب الأليمة التي عاشها كل منهما في حياته الشخصية.
أعمال فنية مستوحاة من أرض الواقع
• شهدت الساحة الفنية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات حالة متفردة من التوهج الفني نتيجة لعدة عوامل منها تسليط كل من الشعراء و المبدعين والقائمين على صناعة السينما الضوء على موضوعات حية مستوحاة من أرض الواقع، ومن ثم نجحوا في تقديم أعمالا فنية رائعة تحاكي الواقع، وذلك من خلال التعبير الفني الراقي عن مشكلات وتجارب إنسانية تنبض بالحياة، ومنهم من جسد خبراته الذاتية في الحياة، ومعاناته وهمومه الشخصية فيما قدمه من أعمال إبداعية، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: قصيدة “لا تكذبي” الرائعة التي كتبها الشاعر “كامل الشناوي” تعبيرا عن قصة حب يائسة من طرف واحد عاشها الشاعر مع المطربة الكبيرة “نجاة” التي شدت بها دون تردد ضمن أحداث فيلمها المشهور “الشموع السوداء” وكانت على دراية كاملة بأنّها هي المرأة التي تتحدث عنها القصيدة، هذا بالإضافة إلى الأغاني التي لحنها الموسيقار الكبير “بليغ حمدي” تعبيرا عن حبه لزوجته المطربة الكبيرة “وردة”، مثل أغنية “العيون السود” وأخيرا الأغنية الحزينة “بودعك” التي غنتها “وردة” أيضا وهي تعلم أنّها رسالة عتاب موجهة إليها شخصيا من “بليغ”، تعبيرا عن حزنه نتيجة لنسيانها أو عدم اهتمامها بتهنئته بعيد ميلاده، وأمثلة أخرى كثيرة من هذا القبيل تدل على حرص الفنانين في ذاك الوقت على تجسيد مشاعر إنسانية حية تخرج من القلب، فيصدقها المتلقي، وتعرف طريقها إلى قلبه ووجدانه، ومما لا شك فيه أنّ لهذا المناخ الفني الخصب ووفرة الكوادر الفنية الشامخة دورهم الرئيسي في نجاح الأعمال الفنية التي قدمها كل من”سعاد” و”حليم” النجاح الكبير الذي شهدته الجماهير في مصر والعالم العربي.
محطات فنية في حياة السندريلا والعندليب
• قدمت “سعاد” في بداياتها أدوار السندريلا، الفتاة الرقيقة التي تعاني من مشكلات التفكك الأسري مع زوجة الأب مثل فيلم “الست الناظرة” أو مشكلات مع زوج الأم مثل فيلم “شىء من العذاب” مع يحى شاهين، علما بأنّها نشأت بالفعل مع أمها وزوج أمها بعد طلاق أمها من أبيها والد “نجاة” شقيقتها من الأب، هذا بالإضافة للأفلام الكوميدية الخفيفة والأفلام الاستعراضية الغنائية، أمّا حليم فكان متيّما بسعاد وبجمال عيونها وضحكتها وابتسامتها الرقيقة فعبر عن هذه المشاعر في أغاني كثيرة شدى بها في مراحل مختلفة من حياته الفنية.
العندليب يغني من أجل عيون “سعاد” وضحكتها
• أعطت المكانة الفنية الكبيرة التي بلغها “حليم” – مثله مثل غيره من كبار المطربين- الحق في الجلوس مع كبار الشعراء لطرح الأفكار والتدخل في كتابة الأغاني التي يشدو بها بالحذف والإضافة والتعديل، ومن يتأمل في الكثير من أغاني “حليم” يدرك حقيقة وجود روح “سعاد” في معظمها، ولاسيما الكلمات التي عبر فيها “حليم” عن عشقه لعيون السندريلا وضحكتها وهذا واضح وضوح الشمس في أغاني كثيرة له مثل “ابو عيون جريئة” حين قال:” فات جمبي وعيونه حبايبي نسوني إلي عايشين جمبي” وأغنية “الحلوة برموشها السودا الحلوة، لولا ضحكتها الحلوة وعدتني بحاجات حلوة -الأغنية التي كُتبت في الأصل في سعاد، وغناها “حليم” في الدراما لفنانة أخرى بشرتها شقراء- هذا بالإضافة لأغاني أخرى مثل “الليالي” ولا سيما في المقطع الذي يقول فيه “يا حبيبي عشت أجمل عُمر في عينيك الجميلة” ، كما تغزّل “حليم مرة أخرى في عيون سعاد في مطلع أغنية “جواب” “مشتاق لعنيك مشتقلك” وفي أغنية “مداح القمر” عبر حليم عن عيون سعاد وضحكتها تعبيرا أخر حين قال: ” أمّا أنا وحدي أنا بشوف الحزن مداري ورا الضحكة إلي في عنيكي”، أمّا في مرحلة البعاد والفراق غنى لها الأغنية الرائعة “حاول تفتكرني” الأغنية التي تعبر عن لوعة الحب ومرارة الفراق حين استهل “حليم” الأغنية بالمقطع الحزين “سافر من غير وداع فات في قلبي جراحه”، وأخيرا قصيدة “قارئة الفنجان”، ليعود مجددا للغزل في عينيها وضحكتها حين قال: “في حياتك يا ولدي إمرأة عيناها سبحان المعبود، فمها مرسوم كاالعنقود، وضحكتها أنغام وورود” وكانت هي القصيدة الأخيرة التي غناها حليم على خشبة المسرح، مما يدل على أنّ حبه الروحاني لسعاد ظلّ عالقا بمشاعره ووجدانه – هذا بالرغم من مرور الزمن والسنين والبعاد والسفر وارتباط “سعاد” بشخص أخر- منذ لقائهما الأول وحتى اللحظة التي لفظ فيها أنفاسه الأخيرة في “لندن” وللحديث بقية في المقال القادم الذي سوف أتحدث فيه – من خلال رؤية حصرية كالعادة- بالتفصيل عن قصيدة “قارئة الفنجان”، ومرحلة النضج الفني للسندريلا وكواليس فيلم “المتوحشة”، ومشهد من أحد أفلامها يبشر بنهايتها المأساوية، انتظروني.

زر الذهاب إلى الأعلى