د. هارون الرشيد يكتب : كيف نربي نسرا ؟!

لعل هذا العنوان يثير تساؤل و استغراب الكثيرين .. إذ ما الذي يجعلنا نفكر في تربية النسور‘ في حين أننا بالكاد نسعى لتقديم واجباتنا الرئيسية كآباء و أمهات ‘ في ظل هموم حياتنا اليومية .. كالاندفاع لكسب القوت ‘ إعداد جداول مثالية لميزانية المصاريف ‘ ترتيب و تنظيم غرف المنزل والمطبخ ‘ إعداد الوجبات الشهية .. الخ .
لكن هذا المقال بالفعل ، موجهاً و مستهدفاً ، لمن لا يريد أن يقول ” يا ليتني فكرت في تربية نسر ؟! ”
بعد هذه المقدمة البسيطة و المثيرة للفضول دعوني أدخل في تمهيد حقيقي لمقالي ” كيف نربي نسراً ؟ ! ”
كما هو معلوم لدى الجميع فإن النسور تبني أعشاشها على قمم الجبال الشاهقة ، مما يعرضها لعوامل الطقس المختلفة ‘ كالأمطار و الرياح العاصفة ‘ و الجليد أيضاً .
و عندما يبنى النسر عشه الضخم ‘ يبدأ بوضع الأغصان الغليظة والعيدان الصلبة و في داخل هذه الأغصان و العيدان يضع قطعا من الصخور والحصى ‘ الزجاج ‘ الأشواك ‘ و ما إلى ذلك من المواد الصلبة المختلفة ثم يضع عليها بعض أوراق الشجر و قطع القماش والقطن الخ ، و في أعلى العش يضع العريش و بداخله تضع الأنثى بيضها.
عندما تولد صغار النسور ، يوفر لهم كل من الأب و الأم تغذية كافية من طعامهم ، و حينما يكبر الصغار تبدأ الأم تدريجياً في زيادة مستوى قسوة الحياة في العش شيئا فشيئا ، فيبدأ الصغار في تسلق جوانب العش الضخم هربا من هذه القسوة .
و أخيراً تزيد الأم من قسوة الحياة في العش إلى أبعد حد، فلا تترك في العش سوى قطع الحصى و الزجاج و الصخور فيضطر الصغار إلى لزوم جوانب العش .
من هنا يبدأ الحب القاسي بالفعل ، فعندما يبلغ الصغار قمة العش ‘ تدفع الأم الواحد منهم ليندفع بسرعة شديدة إلى الأسفل ‘ حتى يبدو الأمر أنه سيلقى حتفه على تلك الصخور و قطع الزجاج ، فتنطلق الأم بسرعة إلى الأسفل لتتلقى صغارها على ظهرها
تكرر الأم هذه العملية إلى أن يتعلم كل الصغار الطيران بأنفسهم.
لقد انتهت وظيفة أنثى النسر ، و تلك هي التربية الناجحة التي سقنا من أجلها هذا المقال ‘ و الذي نهدف من طرحه المساهمة في إعداد أفراد أكفاء ‘ مستعدين لترك بصمتهم في العالم ‘ فكما يقول الحكماء ” إنك لا تربى القادة أو الأبطال على أسرة من الريش ‘ ولكن أسلوب النسر هو الأفضل “.
من هنا ، يجب على الآباء أن يتصرفوا كما تتصرف النسور ، إذا كانوا يريدون لأطفالهم أن يحلقوا عالياً .
و في النقاط التالية نقدم اقتراحات هامة لتطبيق هذه التربية :-
1- علموا أطفالكم المسئولية بتحميلها لهم ‘ و محاسبتهم في نفس الوقت:
ان مجتمع اليوم في حاجة ماسة إلى أفراد يتصرفون بشكل مسئول ‘ و المسئولية لابد أن تغرس في الطفل مبكراً .. فحينما ينسى مثلاً أداء واجباته المدرسية ‘ و يتصل بأمه في المنزل ليعلن لها نسيانه ذلك ‘ فإن المناخ العام في هذا اليوم سيفسد بأكمله ‘ خاصة إذا أعلن أن نسيانه هذا سيؤدى إلى رسوبه في الفترة التقييمية .
وهنا يتمثل حل المشكلة ‘ في الاستجابة لطلب طفلكم الأول ‘ لكن عليكم أن تنتهزوا هذه الفرصة لتوضحوا له ‘ أنه في المستقبل يجب عليك أن تتحمل المسئولية كاملة ، فإن تكرر ذلك فقولوا له حينئذ ، آسفون جداً ‘ هذه مسئوليتك أنت ،
قد يكون الرسوب في التقييم أمراً خطيراً ‘ ولكن إذا لم يتعلم طفلك تحمل المسئولية ‘ فسيواصل استهتاره و إحباطه و رسوبه .
كلما علمتم أطفالكم تحمل المسئولية مبكراً كلما قلت المشكلات الخطيرة التي قد تضطروا لمواجهتها فيما بعد .
2- مساعدة الأطفال على وضع الأهداف:
إن الأطفال الذين يضعون الأهداف والخطط – خاصة في بدايات المراهقة – لن يتصرفوا بشكل مدمر على الأرجح ‘ قياساً بالأطفال الذين لا يفهمون أهمية تلك الأهداف ‘ ذلك لأن عملية وضع الأهداف تشتمل على خطط لتحقيقها ‘ كما تحد هذه الخطط بالتأكيد كثيراً من السلوكيات السلبية ..
استمروا في الحديث معهم دائماً عن أحلامكم و أهدافكم ‘ ناقشوهم في أهدافهم المدرسية لهذا العام ‘ ساعدوهم على تدوين أهدافهم ، سيركزوا أولادكم هنا على تحقيق الأداء بأعلى مستوى ممكن.
3- أجعلوا منهم أداة فاعلة:
يقول وليام بينيت ” إن في إمكاننا أن نفعل شيئا لمنع أبنائنا من تعاطي المخدرات ، و طبقا لذلك فإن الأبناء الذين يتصلون بآبائهم بشكل جيد ‘ و يؤدون العبادات بشكل منتظم ‘ و يشتركون في الأنشطة الرياضية والثقافية ‘ و ما إلى ذلك لا يتعاطون المخدرات أبداً ” .
من هنا يجب على الآباء زيادة مشغوليات أبنائهم ‘ و تذكيرهم بأنهم مخلوقات فاعلة يمكن أن تقوم بأعمال عظيمة .
4- زرع النظام في حياتهم:
يحتاج أولادك إلى جدول أعمال يرتكز على الأنشطة الإيجابية .. و من الأشياء التي تساعد الأبناء كثيراً ‘ تناول الطعام مع الأسرة ‘ النوم و الاستيقاظ في مواعيد منتظمة ‘ مع تخصيص أوقات محددة للدراسة .
في المساء ‘ إذا كان وقت النوم هو التاسعة ‘ ففي الثامنة و النصف قولوا للأطفال ” حسنا‘ ستذهبون إلى أسرتكم في التاسعة تماماً ، إذاً ، ليعمل كل منكم على قضاء حاجاته ‘ و يفعل كل ما يريده بدءاً من الآن ‘و في تمام الساعة التاسعة سنخلد جميعاً إلى النوم ” .
في الصباح ‘ استيقظ مبكراً بخمس دقائق ‘ و حينما تمر بباب حجرة أطفالك دق الباب عليهم ، و قل حسناً يا أولادي ‘ لقد حان وقت الاستيقاظ من النوم ، بعد دقيقتين أو ثلاث أخرى ‘ استأذن للدخول عليهم لتتأكد من شروعهم بارتداء ملابسهم.
احرصوا على أن تقولوا أشياء ايجابية مثل ” لا نستطيع أن نقول لكم كم نحن نحبكم ‘ الحمد لله الذي وهب لنا أطفالا أمثالكم ‘ سيستمتعون بيومهم كثيراً.. الخ .
5- احترسوا مما تقولون:
أؤكد لكم بشدة على أهمية ما تقولونه لأطفالكم ‘ وعلى أثر ذلك على عقله ‘ يقول بيل جلاس ” إن 90 % من المسجونين ذكروا أن آبائهم كانوا يقولون لهم باستمرار ” في يوم ما سينتهي بكم الحال إلى السجن ”
6- وجهوا المدح بالشكل اللائق :
من الأهمية بمكان أن يفهم الأب و الأم بعض الأساسيات عن تربية أطفالهم ‘ فالأطفال مختلفون ‘ و لكل منهم طابعه الخاص ‘ فنهم من هو موهوب في الرياضة ‘ ومنهم من يتمتع بوسامة و جاذبية ‘ الخ .
وطبقاً لما يقوله أحد علماء النفس في أحدى الجامعات الأمريكية البارزة :
” فإن الصغار الذين يقال لهم إن أعمالهم الجيدة تعكس ارتفاع مستوى ذكائهم ‘ يبدءون على الفور في قياس ذكائهم عن طريق أدائهم ‘ وعندما يتعرض هؤلاء الصغار إلى النكسات ‘ يستبد بهم فتور الهمة ‘ لأنهم يتصورون حينئذ إنهم يفتقرون إلى المهارات المطلوبة للنجاح ” ، و لكن علم النفس هذا .. يرى أن الأطفال الذين يتعلمون أن النجاح لا يأتي إلا من خلال الجد والمثابرة ‘ لا يعانون بالمرة من فتور الهمة ‘ و يميلون دائماً إلى مواصلة المحاولة .
أخيراً
إنني واثق بأن العديد من الذين يقرؤون هذا المقال الآن سيقولون : يا ليتنا أدركنا هذا الأسلوب لتربية أبناءنا .
و بدوري أقول لهم .. قد نقول ” يا ليتنا ” مرات عديدة في حياتنا ، لكن أعتقد أننا إذا ما غيرنا أسلوبنا من الآن فصاعداً ‘ نستطيع أن نتجنب الندم على ما فات.
وفق الله كل أب و أم لتربية أبنائهم ليكونوا مستعدين لترك بصمتهم في هذا العالم بإذن الله .
احرصوا على أن تقولوا لهم أشياء ايجابية مشجعة .