يواجه قطاع الغاز فى مصر مجموعة من الفرص والتحديات المتزامنة بينما تصبو القاهرة إلى التحول لمركز إقليمى لتجارة الغاز فى شرق المتوسط مستفيدة من موقعها الاستراتيجى الذى يوفر لها ميّزة أن تكون نقطة اتصال بين عدد من الدول لإيصال الغاز المسال إلى أوروبا بعد تسييله فى محطات الإسالة المحلية وفى ظل حاجة دول القارة العجوز لتنويع وارداتها بعد الضربة القاصمة التى تلقتها فى أعقاب الحرب فى أوكرانيا.
لكنّ على الجانب الآخر، ثمة مجموعة من التحديات التى تواجه قطاع الغاز المصرى من بينها نقص الإنتاج المحلى (طبقاً لما تُظهره أحدث البيانات) ومع تراجع الاكتشافات نسبياً فى الفترة الأخيرة بعد الدفعة القوية التي أسهم فيها حقل ظهر بينما على الجانب الآخر يرتفع الطلب والاستهلاك الداخلى فى واحدٍ من أعنف المواسم الصيفية وأكثرها حرارة وبما دفع الحكومة المصرية لوقف صادرات الغاز من أجل تلبية الطلب المحلى. ويضاف إلى تلك العوامل تقلبات الأسعار على المستوى العالمي بعد شتاء دافء نسبياً فى أوروبا استطاعت دول القارة الخروج منه بمخزونات مناسبة إلى حد ما.العوامل الأربعة المذكورة (تراجع الإنتاج وتراجع الاكتشافات، إضافة إلى زيادة الطلب المحلى مع التقلبات السعرية بأسواق الغاز عالمياً) من بين أبرز التحديات العرضية التي تضغط على القطاع في مصر فى وقت تتبنى فيه الحكومة المصرية خططاً تطويرية ومشاريع لدعم مركزها في أسواق الغاز العالمية من بينها استهداف حفر 35 بئراً اكتشافياً جديداً حتى منتصف 2025 باستثمارات 1.8 مليار دولار.قال أستاذ الاقتصاد، الدكتور علي الإدريسي، لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية” إنه مع بداية الحرب في أوكرانيا بدأت دول أوروبا -الباحثة عن تأمين مصادر بديلة للغاز الروسي العام الماضى- تنويع المصادر والحصول على الغاز المسال من دول بالشرق الأوسط، وقد استفادت مصر فى هذا السياق لتعزيز صادراتها لأوروبا وبما يساعد فى توفير النقد الأجنبى بالبلاد وذلك على أمل أن تكون معدلات الاستهلاك المحلية فى مستوياتها الطبيعية التى يغطيها الإنتاج المحلى مع فوائض مُوجهة للتصدير.
لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى.السفن فقد واجهت مصر درجات حرارة مرتفعة بشكل غير مسبوق هذا العام الأمر الذى قاد إلى زيادة الاستهلاك (الداخلي) وبدلاً من وجود فائض أو تعادل، تعانى البلاد من نقص (عجز) بدلاً من الاكتفاء الذاتي والفوائض التصديرية الأمر الذى أثر بدوره على القطاع الكهربائى وأدى لأزمة انقطاع الكهرباء الحالية التي تشهدها المحافظات المصرية لتخفيف الأحمال الكهربائية فى ظل زيادة الاستهلاك.
وتراجعت صادرات الغاز المسال المصرى إلى 2.9 مليون طن خلال النصف الأول من العام الجارى وذلك نتيجة انخفاض الإنتاج مع التناقص الطبيعى نتيجة تقادم الآبار وكذلك ارتفاع الطلب المحلى. فيما أوقفت الحكومة المصرية تصدير الغاز منذ مايو الماضى لتأمين الاحتياجات المحلية.ويشير الإدريسي كذلك ضمن العوامل الضاغطة على قطاع الغاز فى مصر إلى مسألة تراجع أسعار الغاز فى الفترات الأخيرة مقارنة بمستويات سابقة العام الماضى وبما يدفع إلى تراجع إيرادات مصر من التصدير.
ويُشار هنا إلى تصريحات سابقة لوزير البترول المصرى المهندس طارق الملا يوليو الماضى الذى توقع تراجع إيرادات بلاده من الغاز المسال بنسبة 50 بالمئة بالتزامن مع التراجعات التي شهدتها أسعار الغاز الأوروبى خلال النصف الأول من العام الجارى.
وكانت أسعار الغاز الطبيعى فى الأسواق الأوروبية قد تعرضت لتراجعات خلال النصف الأول من العام بنسبة 52 بالمئة وذلك بعد أن مر فصل الشتاء بدرجات حرارة أكثر دفئاً من المعتاد وهو ما أدى إلى الحد من الطلب على التدفئة.ويعد تراجع الإنتاج من من العوامل الضاغطة على قطاع الغاز فى مصر أيضاً بحسب ما يتطرق إليه الإدريسى خلال حديثه والذى يشير إلى أنه خلال الفترة الماضية لم نر اكتشافات جديدة مشيراً إلى حجم الإنتاج الناتج عن حقل ظهر الطبيعى (الذى تُقدر احتياطاته من الغاز بنحو 30 تريليون قدم مكعب وتبلغ قدرته الإنتاجية 3.2 مليار قدم مكعب يومياً) لكنه يرى أن زيادة الاستهلاك وتوجيه الفوائض السابقة للتصدير يؤثر بالسلب كما حدث أخيراً بعد عدم تقدير حجم الطلب وبالأخص مع ارتفاع درجات الحرارة.أظهرت بيانات صادرة عن مبادرة بيانات المنظمات المشتركة (جودى) تراجع إنتاج الغاز الطبيعى فى مصر إلى أدنى مستوى فى ثلاث سنوات خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023.
انخفض إنتاج الغاز الطبيعى من يناير إلى مايو بواقع تسعة بالمئة على أساس سنوى و12 بالمئة مقارنة مع الفترة نفسها من عام 2021 بحسب تقرير نشرته وكالة رويترز.قالت الحكومة الشهر الماضى إن إنتاج حقل ظهر بلغ 2.3 مليار قدم مكعب يوميا انخفاضا من 2.7 مليار قدم مكعب يوميا في 2019.
وتلقت السوق المصرية دعماً بعد اكتشاف شركة إيني الإيطالية لحقل ظهر العملاق للغاز فى العام 2015 لكن منذ ذلك الحين تقلص عدد الاكتشافات الكبيرة وفق ما جاء فى تقرير لرويترز.
ويُشار هنا إلى أن مصر بدأت بالتعاون مع شركات عالمية برنامجاً لحفر 35 بئر استكشافية للغاز الطبيعى خلال العامين المقبلين باستثمارات قدرها 1.8 مليار دولار طبقاً لما أعلنه وزير البترول المصرى. يستهدف البرنامج حفر 21 بئراً خلال العام المالى الجاري 2024-2023 و14 بئراً خلال العام المالى 2025-2024.
وإلى ذلك يشير خبير الطاقة مستشار المركز العربى للدراسات أبو بكر الديب إلى عدد من أسباب نقص الغاز فى مصر، ومن بينها أثر ارتفاع الاستهلاك المحلى بعد موجة الحر الحالية وانخفاض الطلب العالمى على الغاز المسال متوقعاً فى الوقت نفسه استئناف إنتاج وتصدير الغاز خلال الفترة المقبلة حيث تسعى مصر إلى تحقيق أهداف استراتيجية فى مجال الطاقة من خلال استيراد الغاز من دول مجاورة بهدف تحقيق مكاسب استراتيجية وتأمين الطاقة المحلية والتصديرية حيث يمكن لمصر بفضل موقعها الاستراتيجى توريد الغاز المحلى والإقليمى بعد تسييله إلى دول الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا.ويلفت الديب إلى ما تردد بشأن وجود مشكلات تقنية بحقل ظهر للغاز مشيراً إلى نفى المركز الإعلامى لمجلس الوزراء المصرى وجود تلك المشاكل التى زعمت الأنباء المتواترة أنها قد تسببت فى تراجع طاقة الحقل الإنتاجية وتهدد بخروجه من الخدمة مؤكدا أن الاستثمارات المستهدفة بالحقل ستصل إلى 15 مليار دولار فى غضون 3 سنوات مقابل 12 مليار دولار حالياً وأن حقل ظهر يعمل بأعلى كفاءة وبكامل طاقته الإنتاجية وفقاً لأحدث المعايير العالمية دون وجود أى مشكلات تقنية.وتعانى البلاد حاليا من نقص فى الطاقة فى وقت أدت فيه موجة الحر إلى زيادة الطلب على وسائل التبريد وهو ما أدى إلى انقطاعات فى الكهرباء لتخفيف الأحمال على الشبكة.
وتشير أستاذة الاقتصاد والطاقة الدكتورة وفاء إلى أن الحديث عن التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة كان فى الماضى نوعاً من الترف أو الخيال العلمى ولكنه حدث سريعاً بعدما حذر منه العلماء كثيراً فقد تعرضت دول العالم لدرجات حرارة غير مسبوقة وصفها الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة بـ عصر الغليان ومن هذا المنطلق قررت الحكومة المصرية وقف صادرات الغاز المسال بسبب هذه الظروف الطارئة التى تتمركز فى محورين الأول انخفاض أسعار الغاز الفورية عالمياً بشكل كبير أما المحور الثانى يأتىى من زيادة الطلب المحلى الكبير على الغاز المستخدم في توليد الكهرباء فمع ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق وزيادة الاحمال للدرجة القصوى استدعى ذلك ضخ كميات ضخمة من الغاز فى شبكات الوقود للمحطات وذلك لتحقيق الجهد اللازم وهنا فضلت الدولة إعطاء الأولوية لقطاع الكهرباء فى مصر وتأجيل التصدير الذى سيتم استئنافه مع قدوم شهر أكتوبر.وتلفت إلى أن مصر بكل مقوماتها أعدت نفسها لتكون مركزاً عالمياً لتداول الطاقة وهى تلعب هذا الدور بالفعل كأبرز المنتجين والمصدرين فى منطقة الشرق الأوسط وسوق مهمة لتزويد أوروبا بالغاز بشحنات إضافية رغم هذه الأزمة الطارئة التى تنتهى بانتهاء الموجة الحارة وعودة الاحمال بمحطات توليد الكهرباء إلى طبيعتها وعودة التصدير.وفيما ذكرت تقارير إعلامية أخيراً بأن نقص الغاز يثير تساؤلات حول خطة الدولة المصرية للتحول إلى مركز إقليمى لتجارة الغاز لا يعتقد رئيس المنتدى المصرى للدراسات الاقتصادية الدكتور رشاد عبده بأن هذا النقص وتراجع العمليات التصديرية أخيراً من شأنه أن يؤثر على تحول القاهرة إلى مركز إقليمى للطاقة وفى ضوء الطفرة التى تم تحقيقها فى قطاع الغاز.
ويشير عبده أن الاعتماد على مصر كمركز إقليمي للطاقة يأتى فى ضوء عمليات الإسالة التى تتم للغاز الطبيعى فى مصر عبر مراكز (محطات) الإسالة المتوافرة بالبلد (فى دمياط وإدكو) ومن ثمّ تصديره إلى أوروبا.ويشير إلى أن القاهرة تستفيد من فرق التحويل إلى الغاز المسال بحيث تستورد الغاز وتجرى عمليات إسالته في محطات الإسالة المحلية وتصديره بسعر أعلى فى صورة غاز مسال للدول الأوروبية والتى تحتاج إلى الغاز الوارد من مصر نظراً للعقوبات المفروضة على روسيا بعد الحرب فى أوكرانيا وتأثر الإمدادات الواردة من موسكو تبعاً لذلك.. وبالتالى تستفيد القاهرة من تلك العملية كمصدر من مصادر توفير العملة الصعبة.وتتبنى الدولة المصرية خطة رامية إلى التحول إلى مركز إقليمى لتجارة الغاز، وذلك من خلال تصدير فوائض الغاز من الإنتاج المحلى وكذلك إعادة تصدير الغاز الوارد إليها بعد تسييله إلى منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا وأوروبا وكانت مصر العام الماضى قد وقعت اتفاقاً مع كل من الاتحاد الأوروبى وإسرائيل، من أجل زيادة صادرات الغاز الإسرائيلى إلى أوروبا بعد إجراء عمليات تسييله فى القاهرة وذلك بعد أن أجبرت تداعيات الحرب فى أوكرانيا المفوضية الأوروبية على العمل على تنويع مصادر الطاقة وفطام أوروبا نفسها عن الغاز الروسى الذى كانت تعتمد عليه بشكل أساسى.وقبل أسبوعين قال وزير الطاقة الإسرائيلى إن بلاده تسعى لسد الفجوة فى إنتاج الطاقة المتجددة مع مصر كما عبر عن رغبته بزيادة صادرات الغاز الطبيعى إلى مصر