« عبدالرحمن النمري يكتب » دور العدالة التصالحية في الحد من جرائم الثأر والانتقام
عبدالرحمن مسلم النمري
مع تزايد نبرة المطالبة بمنح العدالة التصالحية مساحة أوسع في النظام القضائي في مختلف دول العالم، تثار شكوكٌ ومخاوفٌ من أن تصبح هذه الصيغة العدلية بديلًا عن العدالة الجنائية التي تعلي من شأن القانون، وتبدو عقابية بشكل أكبر.
وترجع هذه الشكوك في الأساس إلى جهلٍ بطبيعة العدالة التصالحية، ودورها في الحدّ من الجريمة بشكل عام من ناحية، وقلة وعي بفاعليتها في تخفيف التوتر المجتمعي، وشيوع الاستقرار النفسي والحياتي للجاني والمجنيّ عليه من ناحية أخرى.
والعدالة التصالحية ليست بدعة حديثة، أو مجرد صرعة يقول بها البعض، وإنما هي في جوهرها شكل من أشكال العدالة الناجزة في الكثير من البلدان في فترات زمنية متباينة.
ويكمن الفرق الأساسي بين العدالة التصالحية والعدالة العقابية في أنّ الأولى تطالب الجاني بأفعال تعويضية سواء تجاه المجني عليه أو تجاه المجتمع، ومن ثمّ تتجنب المأخذ السلبي الواضح في العدالة العقابية التي تعلي من شأن العقوبة على حساب معالجة أضرار الجريمة على المجرم والضحية.
وليس للعدالة التصالحية نموذج وحيد، سيُجبر الجميع على الالتزام به وتطبيقه، وإنما تتمتع بالمرونة الكافية لتناسب جميع البيئات والثقافات والمكونات المجتمعية، ولا شك أن هذه المرونة ستعدّ أحد نقاط القوة في جعلها قابلة للتكييف مع الجرائم حسب كل وسط، ومع التشريعات والقوانين كذلك، بما لا يخلّ مطلقًا بقواعد السلامة والأمن في المجتمع.
ويظهر لنا الدور الأبرز للعدالة التصالحية في الحدّ من جرائم الثأر في كونها وسيلة عقابية آمنة تحول دون خضوع الجاني لفكرة الرغبة في الانتقام ممن تسبب في حبسه، وحرمانه من أسرته أو وظيفته، أو حياته الطبيعية. كما أنّها تولد قناعة لدى المجني عليه أنّه كان جزءًا رئيسًا من عملية المحاكمة، فيتجاوز قناعة عدم كفاية الردع، أو عدم رضاه عن المحصلة. وهكذا، تعمل العدالة التصالحية على كسر حلقة الانتقام والانتقام المضاد، مما يعني على المدى المتوسط انخفاض معدل تكرار الجريمة.
من جهة الضحية، فإن العدالة التصالحية ستعمل لصالحة، لأنه – وفي بعض القضايا تحديدًا – قد تكون أنفع له من إنزال عقوبة تأديبية بالجاني، ففي قضايا السرقة مثلًا، قد تتمكن الضحية من استرداد ممتلكاتها بمساعدة الجاني في مقابل العفو عن العقاب القانوني التقليدي، وكذلك الأمر في قضايا السمعة التي يمكن للجاني فيها أن يبرأ الضحية مما ألصقه بها من افتراءات علانية أو كتابة، مما يعدّ أجدى من حبس الجاني دون اعتراف صريح منه بكذب ادعاءاته. وهكذا تعمل هذه الآلية بفكرة ربح كلا الطرفين، عوضًا عن خسارة كلا الطرفين.
العدالة التصالحية تشبه إلى حد بعيد عملية نزع فتيل قنبلة قبل انفجارها، أو إيقاف العدّ التنازليّ لشحنة ناسفة توشك على تدمير محيطها، فالمتتبع لتأثير العدالة العقابية على العلاقات الإنسانية الطبيعية مثل العلاقات في العائلة الواحدة، أو بين الجيران، ومدى تأثرها سلبًا، أو تجمّدها، أو شيوع الكراهية بين الأفراد وتوارثها، سيعلم يقينًا أن العدالة التصالحية فرصة حقيقية لدعم ركائز السلام المجتمعي والأسري.