تنمية الجانب الأخلاقي عن طريق الأوامر الوفاء بالعهود والمواثيق نموذجاً

 

محمد حامد

– الأستاذ بجامعة يوني شمس (UniSHAMS) ماليزيا

الناظر في القرآن الكريم بعين فاحصة متأملة يرى أن كثيرًا من أوامره جاءت لتحث المجتمع الإسلامي للتحلي بمكارم الأخلاق والتخلي عن قبائحه ، حيث يجعلها الله تعالى صفة من صفات عباده المؤمنين الملتزمين بالوفاء بالعهود والمواثيق، ففي مطلع سورة المائدة ينادي ربنا عز وجل على عباده المؤمنين من خلال الأمر بالوفاء بالعهود والمواثيق فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة1) , ومن ذلك أيضًا قوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} (الإسراء34) ، وقوله تعالى : {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} (النحل91), إلى غير ذلك من الآيات التي تتحدث عن خلق الوفاء بالعهد، وأهميته في حياة المؤمن.

يعلق الإمام القرطبي على الآية بقوله :”هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها لكل ذي بصيرة بالكلام، فإنها تضمنت خمسة أحكام :

post

الأول: الأمر بالوفاء بالعقود ، وإذا تدبرنا الأمر الوارد في الآية المباركة لوجدنا أن هذا أمرًا لا ينطبق على شيء واحد من العهود بل هو مطلق لكل عهد وميثاق سواء أكان بين العبد وخالقه عز وجل ، أم كان عهدًا بين الأخ وأخيه ، في المعاملات وغيرها ، فاللفظ لفظ عام وشامل لكل عهد وميثاق، وفي هذا المعنى نرى أن:”هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه الإيمان بالوفاء بالعقود ، أي: بإكمالها ، وإتمامها، وعدم نقضها ونقصها ، وهذا شامل للعقود التي بين العبد وبين ربه، من التزام عبوديته ، والقيام بها أتم قيام، وعدم الانتقاص من حقوقها شيئًا، والتي بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم بطاعته واتباعه ، والتي بينه وبين الوالدين والأقارب ، ببرهم وصلتهم، وعدم قطيعتهم، والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر، واليسر والعسر، والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملات ، كالبيع والإجارة ، ونحوهما ، وعقود التبرعات كالهبة ونحوها، بل والقيام بحقوق المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات:10)، بالتناصر على الحق ، والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع، فهذا الأمر شامل لأصول الدين وفروعه ، فكلها داخلة في العقود التي أمر الله بالقيام بها”.

من أجل كل ما سبق نرى أن هناك خلافًا بين العلماء فيمن وعد إنسانًا وعدًا هل يجب عليه الوفاء بوعده على سبيل الوجوب أم على سبيل الاستحباب؟ فصّل القول في هذه المسألة الإمام النووي فقال:”أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ وَعَدَ إِنْسَانًا شَيْئًا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَفِيَ بِوَعْدِهِ وَهَلْ ذَلِكَ وَاجِبٌ أَوْ مُسْتَحَبٌّ؟

فِيهِ خِلَافٌ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فَلَوْ تَرَكَهُ فَاتَهُ الْفَضْلُ وَارْتَكَبَ الْمَكْرُوهَ كَرَاهَةً شَدِيدَةً وَلَا يَأْثَمُ يَعْنِي مِنْ حَيْثُ هُوَ خُلْفٌ وَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ إِنْ قَصَدَ بِهِ الْأَذَى، قَالَ وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ مِنْهُمْ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبَعْضُهُمْ إِلَى التَّفْصِيلِ وَيُؤَيِّدُ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مَا أَوْرَدَهُ فِي الْإِحْيَاءِ حَيْثُ قَالَ وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا وَعَدَ وَعْدًا قَالَ عَسَى وكان بن مَسْعُودٍ لَا يَعِدُ وَعْدًا إِلَّا وَيَقُولُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ الْأَوْلَى، ثُمَّ إِذَا فُهِمَ مَعَ ذَلِكَ الْجَزْمُ فِي الْوَعْدِ فَلَا بُدَّ مِنَ الْوَفَاءِ إِلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَعْدِ عَازِمًا عَلَى أَنْ لَا يَفِيَ بِهِ فَهَذَا هُوَ النِّفَاقُ”.

فالوفاء بالعهد يُعد من : “حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء؛ وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب الأصل وشرف العنصر، وأول مراتب الوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب على المحب والمحبوب، لا يحول عنه إلا خبيث المحتد لا خلاق له ولا خير عنده”.

إن الوفاء بالعهد من فضائل الأخلاق، ودليل قوي على الأصل الطيب لمن يُطبق هذا الخلق الحميد، الذي هو وصف من أوصاف أهل الجنة بإذن الله تعالى، حيث قال الله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8)وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)}(المؤمنون 8- 11).

يتبع في المقال القادم إن شاء الله.

 

زر الذهاب إلى الأعلى