مع بداية عام جديد وبيان أهمية الوقت في الإسلام 

بقلم : د. عمرو حلمي

ها نحن بين عامين عام قد أدبر لا ندري ما الله صانع فيه ، وعام قد أقبل لا ندري ما الله قاض فيه.

قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تعملون }[الحشر(18)].

 

وقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: طَلَبْتُ خُطَبَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْجُمُعَةِ فَأَعْيَتْنِي فَلَزِمْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ لَكُمْ عِلْمًا فَانْتَهُوا إِلَى عِلْمِكُمْ، وَإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ، فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ مَخَافَتَيْنِ بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لَا يَدْرِي كَيْفَ صَنَعَ اللهُ فِيهِ، وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لَا يَدْرِي كَيْفَ اللهُ بِصَانِعٍ فِيهِ، فَلْيَتَزَوَّدِ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ، وَمِنْ دُنْيَاهُ لِآخِرَتِهِ، وَمِنَ الشَّبَابِ قَبْلَ الْهَرَمِ، وَمِنَ الصِّحَّةِ قَبْلَ السَّقَمِ، فَإِنَّكُمْ خُلِقْتُمْ لِلْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا خُلِقَتْ لَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ» [«شعب الإيمان»، ح(10097)].

post

 

قَالَ ابْنُ عَوْنٍ : « لَا تَثِقْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي تُقْبَلُ مِنْكَ أَمْ لَا، وَلَا تَأْمَنْ ذُنُوبَكَ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي هَلْ كُفِّرَتْ عَنْكَ أَمْ لَا، إِنَّ عَمَلَكَ عَنْكَ مُغَيَّبٌ مَا تَدْرِي مَا اللهُ صَانِعٌ فِيهِ، أَيَجْعَلُهُ فِي سِجِّينَ ، أَمْ يَجْعَلُهُ فِي عِلِّيِّينَ» [«شعب الإيمان» ح(6930)]

 

فالأمة العاقلة هي التي تأخذ من ماضيها لحاضرها وتستفيد منه الدروس والعبر وتتخطى الصعاب بالعمل الجاد والصبر الجميل.

 

ولقد قدس الإسلام العمل وكرم العاملين والمنتجين واعتبره شرفاً وجهاداً وصورة مُعَبِّرة عن ذات الإنسان واستعداداته فبالعمل يؤدي الإنسان رسالته الإعمارية في هذه الأرض، وبالعمل يتطابق مع دعوة القرآن إلى الإعمار والإصلاح في هذه الأرض قال تعالى:{هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}[هود 61] وانطلاقا من هذه الدعوة أخذ الإسلام يحث على العمل ويحارب الكسل ويدعون إلى الجد وبذل الجهد من أجل تحصيل الرزق والانتفاع بطيبات الحياة وإعمار الأرض وإصلاحها ومن ثم يكون النهوض بالوطن والرقي بالمجتمع.

 

ولقد حظي العمل في الإسلام بمنزلة خاصة واحترام عظيم ويكفي في إظهار ذلك تنبيه القرآن إلى السعي والابتغاء من فضل الله في الأرض بمختلف الأساليب وشتى الوسائل التي شرعها.

فالعمل خير للإنسان من أن يسأل الناس لأن ترك العمل يؤدي إلى الفقر والبطالة وفي الحديث:«لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها فيكف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه».

 

والإسلام يدعو أتباعه إلى الإنتاج والعمل على استثمار الموارد المتاحة لهم سواء أكانت مادية أم مالية أم بشرية وتوظيفها بما يحقق تقدمهم واستغناءهم عن التبعية لغيرهم، ويهدف إلى عمارة الأرض فيؤسس نهضة في الزراعة والصناعة والتجارة فيتناول القرآن تلك المعاني في آيات عديدة فيوجهنا إلى إحياء الأرض وزراعتها واستثمارها بقوله: { فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ}[عبس 24].

 

وهناك توجيهات قرآنية تدعو إلى التنمية الصناعية بكل أشكالها في إطار الضوابط الشرعية والتي لا تتأتى إل بالعمل والبذل والإنتاج فقد أشار القرآن إلى صناعة الحديد

، قال تعالى:{وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}[الحديد25]، كما أشار إلى صناعة الدروع وعدة الحرب ، قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ۖ وَاعْمَلُوا صَالِحًا ۖ إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[سبأ11] ، كما أشار إلى صناعة المراكب ، قال تعالى:{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا }[المؤمنون 27] ، وحتى يتحقق نجاح الأمة وتفوقها في مجال العمل فإنها تحتاج أن تترك سلبيتها وتواكلها، وتنطلق في ميدان الإنتاج والإتقان.

 

والإتقان هدف تربوي فهو من أسس التربية في الإسلام لأن الإتقان في المجتمع المسلم ظاهرة سلوكية تلازم المسلم في حياته والمجتمع في تفاعله وإنتاجه فلا يكفي الفرد أن يؤدي العمل صحيحا بل لابد أن يكون صحيحا ومتقنا حتى يكون الإتقان جزءًا من سلوكه الفعلي.

 

والإتقان في المفهوم الإسلامي ليس هدفا سلوكيا فحسب بل هو ظاهرة حضارية تؤدي إلى رقي الجنس البشري وعليه تقوم الحضارات ويعمر الكون، وإتقان العمل من أهم أهداف الدين الإسلامي فبالإتقان يسمو المسلم ويرقى به في مرضات الله والإخلاص له، لأن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، وإخلاص العمل لا يكون إلا بإتقانه. لذا حثنا نبينا على إتقان العمل: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه”.

 

وهو بذلك يرفع منزلة الإتقان إلى أسمى المنازل، وجعله سبيل رضوان الله وحبه، وجعلنا نتدبر وندرك أنه أساس نهضة الأمة وعلو شأنها واستقامة حياتها فهو الذي ينفع الناس ويقيم البناء القوي الشامخ والمجتمع الصالح الظافر وهو دليل على أداء الواجب كاملا في العمل كما أنه برهان واضح على الإخلاص وعدم التفريط في حقوق الوطن. ولاشك أن وطننا الحبيب يطالب الجميع بالإتقان حتى ينهض ويحقق آماله ويريد من كل عامل في مصر أن يزكي قلبه بالإخلاص ويعلم أنه لن تعلو مرتبته إلا بحسن العمل وجودة الإنتاج وسلامة الصنع ونيل المقصد.

 

فاللهم عفوك عما فات وأحسن لنا فيما هو آت و اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير.

واحفظ مصر وأهلها وجيشها من كل مكروه وسوء.

اللهم استر عورات المسلمين وآمن روعاتهم وألف بين قلوبهم.

زر الذهاب إلى الأعلى