حوار مع الدكتور خالد عبد الغني حول الجريمة في منظور علم النفس الجنائي

سميـر سلامــة .

نتناول جوانب متعددة حول علم النفس الجنائي وإلقاء الضوء علي الجريمة بأشكالها والتي باتت تهدد المجتمعات أثر التغيرات الإجتماعية والسياسية والإقتصادية التي عصفت بالعالم بوجه عام ..

الدكتور خالد عبد الغني ، والمعروف بغزارة أعماله في دراسات علم النفس و المؤلفات والمقالات والبحوث والبرامج والندوات ذات الصلة بعلم النفس والتحليل النفسي وعلم نفس الأدب والفئات الخاصة ،، أصدر عشرين كتابا ، وأجرى ستة عشر بحثاً تجريبياً، وله أيضا أربعين دراسة نقدية منشورة في الدوريات والمجلات والصحف العربية من منظور علم النفس للأدب الحديث والمعاصر والفن التشكيلي ، كتب عن رموز الرواية العربية بدءاً من طه حسين وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي ، وانتقل لجيل الستينيات فكتب عن ابراهيم عبدالمجيد وخيري شلبي وابراهيم اصلان ورضوى عاشور وغسان كنفاني ويوسف ادريس وحسن فتح الباب ، وكتب عن الرواية المعاصرة وبخاصة لدى عزة رشاد وثريا لهي وفايزة حلمي وعلي لفتة سعيد وعلياء هيكل وإبراهيم عطية ، وكان لأمير الرواية العربية نجيب محفوظ الاهتمام الأكبر فقد نُشر عنه كتابين هما “نجيب محفوظ وسرداته العجائبية و “نجيب محفوظ بين الاسطورة والتحليل النفسي”
نص الحوار :

أعرف أنني لن أستطيع إيفاء كل ما يدور في ذهن القارئ والمتخصصين حول الجريمة في منظور علم النفس الجنائي ، لأشكالها المتنوعة وأسبابها الكثيرة ، ولكونها فعل إنساني يسأل الفرد عنه و يتحمل عواقبها مجتمعات ،الأمر الذي نشأ لأجله هذا العلم …

كيف نشأ وتطور علم النفس الجنائي..؟

post

مر تاريخ العلم النفس الجنائي بمراحل كثيرة وقد تحدث فلاسفة الإغريق القدامى مثل : ابوقراط وسقراط وافلاطون وارسطو عن المجرمين بوصفهم ذي نفوس فاسدة أساسها عيوب خلقية وجسمية. وفي القرون الوسطى ظهر اتجاه فلسفي آخر يرمي إلى استيضاح طبيعة النفوس من خلال الشواهد الجسدية، وفي مرحلة تالية سادت نظرية خرافية تربط بين تكوين النفس ذات الميول الإجرامية وبين الكواكب. ومن بداية النصف الأخير للقرن السادس عشر وجد الفلاسفة الطبيعيون النظرية الجزائية، وعلى رأسهم (ديلابورتا) و(دولاشمبر) و(داروين) منتجين المنظور الفكري والمادي الذي يبحث في الاستدلال على طبيعة النفس ونوازعها من خلال العيوب الخلقية الظاهرة.

وعلم النَّفس الجنائي هو علمٌ يفحص ويقيّم الحالة النفسيّة والعقليّة للمجرم، من خلال استجوابه وطرح عددٍ من الأسئلة، واستخدام بعض الأدوات الخاصة لمساعدتهم في كشف شخصيّة المُجرم، وتوقّع حركاته وطريقة تفكيره. فهناك جزءٌ كبيرٌ من علم النفس الجنائي بدأ في عام ألفٍ وتسعمئةٍ وأربعين، عندما طلب مكتب الولايات المتحدة للخدماتِ الاستراتيجيّة من الطبيب النفسي والتر لانجر Walter langer أن يُقدّم لائحة في صفات شخصيّة أدولف هتلر الألماني، وبعد الحرب العالميّة الثانيّة قام الطبيب النفسي البريطاني ليونيل هاورد Lionel haward بوضع قائمةٍ من الخصائص التي توجدُ في شخصيّة الجندي والتي يُمكن أن تجعلهُ مجرمَ حرب، ثمَّ بدأ علم النفس الجنائي بالتوسّع حتّى أصبَح موجوداً بشكلٍ أساسيٍ في كافة القضايا الإجراميّة.

ويتحدد هدف علم النفس الجنائي بحسب أحدث المؤلفات في هذا الصدد وهو “مقدمة في علم النفس الجنائي لـ ” كيرت باترول وانا باترول” بالدعوة إلى إنتاج وتطبيق المعرفة النفسية ونتائج البحث في أنظمة العدالة الجنائية والمدنية و الممارسات العيادية في الإرشاد والعلاج النفسي للمجرمين أيضا إذا ما لزم الأمر ودراسة شخصية الشهود ورجال القضاء ومنفذي القانون ، وبقية الأنشطة البحثية المختلفة ، ويهتم هذا الفرع من علم النفس بعلم نفس الشرطة، وعلم النفس والقانون ، وعلم نفس الجريمة والجنوح،والضحايا والخدمات النفسية المقدمة لهم، وعلم نفس الإصلاح (بما في ذلك الإصلاح المؤسسي والمجتمعي لكل من البالغين والأحداث). ولهذا فقد أهتم بهذا العلم كل من القراء العاميين ومختصي الصحة العقلية الذين يسعون للمراجعة الأساسية في الميدان النفسي, وكذلك العديد من الناس المرتبطين بعلم النفس الجنائي ذوي السجل الجنائي، ومحققي مسرح الجريمة، وأصحاب عمليات القتل المتكرر ، والقائمين بالعمليات الارهابية على نطاق واسع أو محدود،

 

هل تتوقف دراسات علم النفس الجنائي عند ما قدمته الدراسات القديمة ، أم انها تجدد مفاهيمها .. وأكثر تطوراً مع تغير الأحداث الإجتماعية ..؟
بكل تأكيد علمٌ يتطور بدراسات واسعة ومتجددة ،وفي الواقع يعد علم النفس الجنائي حقلا متشابكا بل يصعب الإحاطة بكل جنباته ، وذلك بسبب التوسع في موضوعاته، والتطبيق الواسع المدى لنتائجه، والتطور السريع الذي يحدث في عالم الجريمة والاعتماد على التكنولوجا الحديثة في ارتكابها بالاضافة للجريمة المنظمة والمتعدية للمجتمعات والدول بل والقارات، والجريمة الالكترونية وما يصاحبها من تطور في الاساليب والغايات .

 

ما هي أهم الأسس التي وضعت لقواعد علم النفس الجنائي ومن أبرز من برعوا في وضعها من العلماء ..؟
قام عالم النفس البريطاني ليونيل هاورد بوضع أربع قواعد أساسيّة يجب أن يُطبّقها عالم النفس الجنائي عندَ فحص المتّهم أو المجرم:

الفحص الإكلينيكي “المرضي”: ويتمُّ هذا الفحص لمعرفة الحالة النفسيّة أو العقليّة للمتهم لمعرفة إذا كان واعياً أو قادراً على فهم الإجراءات التي سيمرُّ بها خلال جلسة المحاكمة.
البحث: يجب على الطبيب النفسي دراسة القضيّة بشكلٍ جيّدٍ، وإجراء البحوث اللازمة عن القضيّة لمعرفة كافة نواحي القضيّة؛ لتقديم المعلومات الصحيحة للمحكمة.
تقديم الاحتمالات: قد يُطلب من العالم النفسي تقديم قائمةٍ باحتمالات، مثل احتمال وقوع الحادث، وطريقة ردة فعل المجرم على الحكم.
تقديم الاستشارة: يُقدّم عالم النفس الجنائي عدّة معلومات لأفراد الشرطة، مثل؛ الوسيلة الأفضل في التحقيق مع المتّهم، أو أفضل طريقة للاستجواب، أو ما هيَ ردّة فعل الجاني بعد ارتكاب الجريمة.

 

ومتي كان هناك عيادات نفسية تجمع بين علم النفس الجنائي والطب النفسي ..؟
في عام 1909م قام أحد علماء النفس بالتعاون مع أحد الأطباء النفسيين في أمريكا بتأسيس أول عيادة نفسية متخصصة في علاج الأحداث وتوالت بعد ذلك فتح عيادات أخرى في ولايات مختلفة. ثم دخل علم النفس الجنائي مرحلة جديدة عندما أفسحت بعض كليات القانون المجال لدراسته، ويسجل لعلماء النفس الإيطاليين إرساء المفهوم المعاصر لعلم النفس الجنائي حول أساس جنوح البشر إلى الجريمة بمنزلة أن الإجرام هو وليد الكيان السيئ للنفس البشرية حينما يطغى على الكيان السامي فيها. وفي عام 1945م وضعت نظرية التكوين الإجرامي أو الاستعداد السابق في النفس البشرية والتي انتهى فيها منظروها إلى وجود تفاعل نفسي داخلي لدى الإنسان، هذا التفاعل يفسر النزعة الإجرامية لدى بني البشر، وأن الجريمة هي وليدة شذوذ غريزي.

 

ومنذ متي كان علم النفس الجنائي فرعاً هاماً بالدراسات النفسية ..؟
في الستينات استوى علم النفس الجنائي على سوقه كأحد الفروع الرئيسية في علم النفس، وصدر أول كتاب بعنوان (علم النفس الجنائي والقانوني) لتوش toch وفي عام 1964م قدم هانز ايزنك كتابه الشهير (الجريمة والشخصية) ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن والمؤلفات تتوالى في موضوع علم النفس الجنائي.

 

كيف كونت الدراسات عناصر للسلوك الإجرامي ..؟

نعم تشكلت العناصر علي أسس مادية ومعنوية وقانونية

العنصر المادي: ونعني به الفعل الذي ينم عن الجريمة.

العنصر المعنوي: وذلك أن الارادة والنية عنصران نفسيان يجب توفرهما في كل جريمة، اذ لا يتصف فعل أحدث ضررا اجتماعيا بأنه جريمة الا اذا أراده فاعله وأراد أن يخالف به القانون.

والعنصر القانوني: كل فعل لم يذكره القانون بصراحة لا يمكن ان يعتبر جرما. ولا يمكن ان يعاقب عليه القانون هي التي تتصف بسبق الاصرار وتختلف النظرة للجريمة بحسب الظروف التي رافقتها وحسب التخريب المادي أو المعنوي الذي أحدثته، وحسب الدافع اليها.

الجوانب النفسية السيئة عند الأشخاص اللذين يقدمون علي الجريمة تتفاوت بحسب المناخ الإجتماعي وربما نجد قصوراً في معالجاتها .. علي من نُلقي المسؤلية..؟ وما هي الجهات المعنية لتعديل السلوك الإجتماعي برأيكم ..؟


الاهتمام بالجوانب النفسية للمجرم أمر بالغ الأهمية ولا شك أن هناك أوجه قصور وعجز عند الكثير من المؤسسات الاجتماعية في ايجاد الحلول المناسبة للحد من سلوك المجرم وثنيه عما أراد، وكذلك شكوى المجتمعات من تكاثر وتطور الجريمة في المجتمع الصغير والكبير، وفشل مؤسسات التربية والتعليم في بعض الدول عن احتواء المراهقين وتعديل سلوكهم إلى نشأة هذا العلم وتطوره.

الإنحراف ..!! إتجاه سيء يضر بالمجتمعات ولا شك أن العوامل النفسية لها دور في السلوك الاجرامي فهل حدد لنا علم النفس أسبابها ، وطرق معالجاتها ..؟

اثبت علماء التحليل النفسي بما لايدع مجالا للشك ان النزوع ) الميل( الى الجريمة راجع في بعض وجوهه الى أسباب نفسية منها

الانحراف العصابي: الذي ينتج هذا الانحراف عن معاملة الوالدين لطفلهما معاملة قاسية. ويظهر هذا الانحراف في صور شتى، مثل التجسس على الامور الجنسية والسرقة والحريق والميل المرضي الى التعذيب

الانحراف السيكوباتي: يعرف العلماء الشخصية السيكوباتية بانها شخصية تعمل ضد المجتمع، والمصاب بهذا الإنحراف يمثل شخصية تميل الى الانتقام واتخاذ مواقف عدائية.

الانحراف الناشئ عن الحرمان: أن الانسان اذا حرم من تحقيق الرغبات الرئيسية، فانه في الغالب يسلك سلوكا اجراميا. وهكذا فإن الجوع أو الحرمان الجنسي أو الحرمان من عطف الامومة أو الشعور بالاضطهاد أو القلق اسباب تؤدي الى هذه النتيجة.

برأيكم كيف كان للعوامل البيولوجية دور في السلوك الاجرامي ..؟

كان المفكرون ينكرون وجود أية علاقة بين الجريمة والعوامل البيولوجية وأيضا عوامل التنشئة في بيئة إجرامية تعطى الطفل نموذج القدوة الاجرامية بل وتسهل عميلة التوحد اللاشعوري مع تلك النماذج الاجرامة داخل الاسرة الفرصة لظهور ونشؤ السلوك الإجرامي، ولا عجب إذًا عندما يتوحد الطفل الذكر مع والده المجرم ، ولا البنت مع أمها العاهرة مثلا. غير أن الأبحاث الحديثة أثبتت هذه العلاقة. وقد أجرى بعض العلماء تجارب ظهر منها أن السلوك الإجرامي يورث. والفزيولوجيا تقرر أن عدم توازن الافراز الغددي يؤثر في السلوك الاجرامي. فاضطراب الغدد التناسلية مثلا يؤدي الى أشنع الجرائم أو الى سلوك مخنث أو إلى سلوك انطوائ ، وأخيرا لابد من الاشارة الى النقائص الجسمية الموروثة. فقصر القامة والعرج والصمم وغير ذلك قد تؤدي الى سلوك اجرامي، بل أن العالم الايطالي لمبروزو يدعي أن وجود هذه العلاقة لا يدع مجالا للشك ويدعي بأنه يمكن التعرف على المجرم بمجرد النظر الى هيئته وشكله الفيزيولوجي.

الجريمـة ..!! لفظ نستاء منه – لما يترتب عليها من أضرار للفرد والمجتمع .. كيف يمكننا الحد من السلوك الإجرامي وبخاصة في الجوانب الإجتماعية ..؟

الجريمة الإجتماعية في الغالب لا يمكنك توقعها لبعديها النفسي والفزيولوجي ، ومما لاشك فيه ان التفكير في الجريمة عملية ذهنية .. يمكن شرحها بما يلي : لنفرض أن جنديا قد رجع من الحرب، ووجد أن زوجته قد هجرت المنزل وذهبت مع غيره. وأنه سيتأثر بالخيانة الزوجية أشد التأثر، وسيلاحظ أن رسائلها كانت باردة العاطفة في الآونة الاخيرة، وسيسمع ما يتناقله الجيران من حديث، وسيحس ان شرفه قد دنسته تلك الزوجة ، وهكذا يفكر في الانتقام وتنفيذ الجريمة .. فالتفكير الاجرامي اذًا عملية ذهنية، غير أن الجريمة في حد ذاتها حادثة اجتماعية، اذ أن ارتكاب الجريمة هو في الواقع نوع من الخروج على قواعد السلوك التي يرسمها المجتمع… وبعبارة اخرى أن المجتمع يعتبر الانسان مجرما اذا كان هذا الانسان لا يحترم قواعد السلوك التي أقرها سائر الناس. ولكل مجتمع مقاييسه الخاصة، فما نعتبره نحن جريمة قد لايكون كذلك عند شعب آخر، ولابد من الحديث عن المسؤولية ما دمنا نتحدث عن الجريمة،إذ لابد من انزال العقاب على المجرم ، إذا توفرت فيه شروط تجعله مسؤولا عن اعماله…

العالم يتغير .. والمُناخ العالمي برغم تطور العلوم أصبح قاسياً .. وأري أن الجريمة تتطور بأشكال متنوعة كيف يكون لعلم النفس الجنائي دور فعال للحد من الجرائم الإجتماعية ..؟

نعم لعلم النفس دور هام للحد منها ومن هذا المنطلق وجب على القائمين على دراسة وتطبيق علم النفس الجنائي ضرورة تطويره لمواكبة التطور الذي يحدث في طريقة تفكير المجرم المتجددة ، وفي كيفية تنفيذ الجريمة في الوقت الحالي، بل والاهتمام بطريقة تفكير القائمين بالتحقيق مع المجرم ، والضباط القائمين بضبطه ومواجهته من أجل الحد من الجريمة ، ومن معدلات انتشارها ومن تنوعها كالارهاب وغسيل الأموال والنصب الاليكتروني والدعارة والسلوك الاباحي والاعلان عنه واستغلال حقوق الملكية الفكرية ..الخ مما يستجد كل يوم من جرائم .

الدكتور خالد عبد الغني أقدم لك عظيم إمتناني وشكري لسعة صدرك وعلي هذا الحوار المهم ، وربما يكون لنا باباً وأملاً يتجدد بعدة حوارات في هذا الشأن البالغ الأهمية
أنا الذي يتقدم بشكرك لهذه النوافذ التي يسرتها لي لكل أطل منها على القارئ الكريم الذي هو غايتنا ايضا بكل ما نقدم من أفكار واجتهادات نتمى أن تروق له .

زر الذهاب إلى الأعلى