إنسان مع العالم الآخر “٨”
عبدالحميد أحمد حمودة
عندما نام رأى في منامه أسوار حجرية كبيرة، وفي داخلها كرسي كبير فارغ في مكان مرتفع، وفوقه نسر حجري كبير؛
إنه مثل قصر مضى عليه الزمن وهو فارغ ولا يعيش فيه أحد، وقف ينظر ويتجول في الداخل، رَائيًا أنه لا حياة فيه
خرج منها في صحراء كبيرة حتى قابل امرأتين جميلتين وقفت أمامه، إحداهن لديها طفلة صغيرة بين ذراعيها وتقدمها له.
عندما رآها شعر بقلبه يشتاق إليها وأمسكها، فاحتضنته الطفلة بإحكام وهي تقبّل خديه. فجأة، ظهر الفرسان قادمون من كل اتجاه، يريدون الفتاة الصغيرة، لكنه عانقها بشدة حتى لا يصلا إليها، فاستيقظ من نومه على ضربة سيف كادت أن تقطع ذراعه.
عندما استيقظ شعر بألم السيف الذي ضرب ذراعه، جلس يفكر فيما رآه أثناء نومه، وشعر بحزن شديد على الطفلة الصغيرة، وشعر أنها كانت قطعة منه وفقدها، جلس يسأل ويتحدث دون جدوى، لا أحد يجيب عليه.
قضى يومه متوترًا ومنهكًا من التفكير فيما رآه، شعر أن حياته لا قيمة لها أمام حياتها، وهذا الشعور جعله يفكر كثيرًا في الأمر، ويريد أن يعرف من تكون هذه الطفلة، وماذا حدث، فذهب لمن يعرف عنهم تفسير الأحلام، وأخبرهم بما رآه، فلما سألوه:
_ هل سبق لك أن رأيت أو شعرت بأي من الجن؟
قال:
_ نعم، رأيتهم وسمعتهم.
قالوا:
_ تفسيرها أنها ابنتك منهم، ولهذا تشعر أن حياتها أغلى من حياتك بالنسبة لك، وهذا هو شعور الأب تجاه ابنته.
قال:
_ وتفسير الفرسان وضرب السيوف؟
قالوا:
_ ربما أرادت عائلتها اصطحابها بعد أن تركتها والدتها من أجلك، وهذا خلاف فيما بينهم.
أيام لا يري أو يسمع أي أحد منهم أو يشعر بهما، حتى رأى في منامه تلك الصحراء الواسعة ورأى النسر الكبير يطير في السماء، فتبعه كما تبعه من قبل، حتى وصل إلى ضفاف النهر وجلس تحت الشجرة التي جلس تحتها من قبل.
جاءه المحارب وسلم عليه وقال له:
_ لم أرك منذ فترة طويلة.
قال:
_ أفتقد رؤيتك والتحدث معك، عندما رأيت النسر تبعته حتى وصلت إلى هنا، وكنت على يقين من أنني سألتقي بك هنا كما التقيت بك من قبل.
قال له:
_ كنت أنتظرك.
قال:
_ أريد أن أعرف أشياء كثيرة منك.
قال له:
_ اسأل ما تريد.
قال:
_ رأيت طفلة في نومي وقيل إنها ابنتي.
قال له:
_ ليست ابنتك، واعلم أن هذا لم يحدث أبدًا؛ خلقت الملائكة من النور، وخلق الجان من لهيب النار مختلطة ببعضها البعض، وخلق الإنسان من الطين اليابس.
قال:
_ لكنني سمعت أنهم يتزوجون وينجبون أطفالًا.
قال له:
_ غير صحيح، في حالات التجسيد وعدم التجسيد يحدث اتصال جسدي بينهما ولكن دون إنجاب، إنها حيل شيطانية توهم الإنسان ويعيش فيها حتى يشاء الله.
قال:
_ السبب الذي يجعلني أشعر أنها مني؟
قال له:
_ لأنهم على اتصال بك جسديا وَفِكْرِيًّا؛ فهم يتلاعبون بك ويجعلونك تشعر بما يريدون، لجعلك تصدق أشياء غير صحيحة وتؤمن بها وتزيد من سيطرتهما عليك، ثم الوقوع فريسة لأغراضهم.
قال الله تعالى: ” يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ.”
قال:
_ يقول الله تعالى إننا لا نراكما.
قال له:
_ نعم، هذا لن يحدث أبدًا؛ نحن نتشكل ونتصور، ولا نظهر أبدًا في الصورة التي خلقنا عليها لأي إنسان، البعض منا على شكل إنسان، والبعض منا على شكل طائر، والبعض منا على شكل حيوان، والبعض منا على أشكال عديدة، لكننا لا نظهر أبدًا فيما خلقنا عليه، الآن سأرحل وسأراك مرة أخرى قريبًا.