مقيم دائم

الروائية فايزة شرف الدين
ــــــــــــ
إلي هذا الشيخ الكبير المدافع عن الحرم القدسي الصريع تحت معاول يد الاحتلال
انحدرت عبر الحارات الضيقة ، متوكئا عليها ، أترسم نفس الخطوات الجاثمة في عمق التاريخ ملبيا ندائه الأخير .. ألبي وجه القمر المتكاثف حوله الغيوم .. المحتضر بعد أن صرعه الخسوف .. ملوحا بيده مودعا ..المتشبث ببارقة الأمل ، وأنا أمد إليه يدي الفانية الضارب فيها الزمن معاوله .
اعتصرت قبضتي رفيقة دربي .. عشت معها ، وعاشت معي .. نرقب الزمن ينفلت هاربا منا راسما خطوطه علي أديمنا ، ولكنه أبدا لن يسلبنا ذكرياتنا .. أتذكرين عندما لامستك أول مرة ؟ .. كنت هناك قابعة تحت شجرة التفاح العتيقة المنزوية في أقصي حديقتنا .. لمحتك وتسللت عبر شجيرات الزيتون راكضا نحوك .. وجثوت عليك وتلقفتك بين يدي الصغيرتين الغاضتين ، وضممتك إلي صدري وهدهدتك كطفل رضيع .
احتضنتك وأمك شجرة التفاح العتيقة ، معاهدا إياها أن أتعهدك دوما بالرعاية .. لم يتبادر إلي ذهني الغر أن تعهديني أنت بالرعاية .. بعد أن أثقلت السنون علي ولم أعد أحملك ، بل تحمليني أنت ، وتدعينني أتوكأ عليك .. ندب سويا بين الدروب ، وألوح بك رغم وهن قوتي في الوجوه الصلفة المحدقة في استهانة .. فلقد تجاوز العمر مداه ، وأصبحت من المصرحين لهم بالدخول لتتلقفني عتباته المقدسة .. كان أريج شجره الأخضر وريحانه تفوح بين أرجائه ومن فوق الربوة ومع نسمات الليل الحلوة كان يحلو لي وأنت رابضة علي ركبتي مراقبة حركة القمر وهو يتسلل في السماء السرمدية مريقا نوره الواني علي شجيرات الزيتون أسفل الوادي ، والآن أصارع رائحة البارود والقنابل الدخانية .. رغم هذا كنت كفتي غض مزق الهوى قلبه وأنا أتحسس جدرانه العتيقة ، وأرنو إليه بعيني الخابيتين قبائه المزهوة ، وتتوهج في مقلتي تلك القبة الذهبية .
صحوت مذعورا وفراشي يترجرج في عنف ، وانفلت صراخي المتوسل بأمي ، ولم أجد سواك يهدهد خوفي ، ويثبت جأشي ..عندها طاولت رأسي وتخللت نظراتي نافذتي ، ورأيت أمك شجرة التفاح العتيقة تجندلت علي الأرض بعد أن أحدقت بها الهروات ، وبين صراخ أمي الملتاع ، وصياح أبي الرافض وهو يفتح ذراعيه علي مداهما يدفع عن شجيرات الزيتون القتلة .. اندفعت إلي الحديقة مصوبا إياك أمامي راشقا طرفك المدبب كأسنة الرماح في صدورهم آخذا بثأرك ومدافعا عن أبي .
صارع ثلاثتنا القتلة .. أبي ، وأنا وأنت بالطبع ، وشاركتنا أمي علي الرغم من أوامر أبي لها أن تبتعد .. غلبتنا الكثرة ، وفهمت مقولتها لأول مرة ” الكثرة تغلب الشجاعة ” .. فقد وقع أبي علي الأرض مشخبا في دمائه ، وأرجع الصدي صوتها المهزوم :
ـ أبو زياد !!
هتف صوت أخنف :
ـ تحت تلال هذا التراب يقبع تراث أجدادنا القدماء .
صاح أبي معترضا بملء فيه وبكل إرادة التحدي :
ـ هذه أرض أجدادي .. لقد كتب عليكم أن تعيشوا علي هامش التاريخ .
تغضن وجهي بابتسامة متحسرة ، وشددت أناملي المهترئة حولك .. وحدك ألقي عليها همومي .. سنابك الخيل تدك المكان ، والأقدام الغليظة المأمورة من فوق عرش الرحمن ألا تطأ حرمه دهسته ، ومعاول الهدم ترسم أنفاقا وممرات سرية ، وأخري علوية ، تبتلع التاريخ ، وتصيغ آخر .. وويل مما يخطونه بأيديهم
.. ضاقت الحلقات .. ساءت الوجوه ، وانتهكت الحرمات .
في الطرف الآخر من المدينة .. انزوينا في بيت صغير كان ، لم تعد السماء مكشوفة أمامي .. لم تعد علي مرمي الشوف .. لم يبق من ذكري حديقتنا ، ولا من ذكري أمك شجرة التفاح سواك ، كنت أتلفع بك ، وأضمك إلي ، واخترق حجب المكان الضيق إلي المرج الأخضر .. أتسلق بك الجبل الزاهر ، وانحدر بك إلي الواديان الخصبة . وأتعلق بك لأقطف حبات البرتقال من حديقة عمتي .
تذكرين عندما اختطفك ابن عمتي وكان يكبرني بسنة ، وأخذ يلوح بك في الهواء ساخرا :
ـ سوف ألقيها في التنور ، وستكون أثرا بعد عين .
جري وسابق الريح ، وهو يهزك في الهواء كأنه محارب ، وجريت بكل قوتي خلفه ، كاد أن يطوحك في التنور عندما تلقفتك منه ، وتصارعنا ونحن نتدحرج علي الأرض .. حتى جاءت عمتي .. نهرته وقد سلبها مني مرة أخري :
ـ إنها عصاه .. أعطها له .
عمتي .. كم كنت أحبها .. ذهب حقلها وصعدت روحها معه .. وأصبح ابن عمتي رفيقي في الحارة الصغيرة ، وبعد أن كان ناقما عليك أصبح صديقا حميما لك ، فأنت كثيرا ما دفعت عني وعنه الأذى .
انفلتت نظراتي نهمة ، كأنها تريد أن تحتويه كله وتصونه في نن العين .. أخذت أتشمم الباقي من عبقه وأنا أراه يتلاشى ويتسرب حجرا .. حجرا .. لم أشعر بوهني وأنا أتوكأ عليك وألف المكان كله ، ثم أعيد الكرة دون ملل غير عابئ بتورم قدمي .. فقط الهموم تكالبت كوحوش كاسرة وأطبق الأسى علي عندما عدت إلي المسجد ، ووجدت بابه موصدا دون المصلين ، ورشقات الرصاص تنهمر علي المقدسيين ، المدافعين عن حرمهم ، وسنابك الخيل تضرب بحوافرها الأرض الحجرية وتتسلق صدور الصبيان القابضين علي الأحجار .
سمعت أبي وهو يقول لأمي كاسف البال :
ـ إننا مقدسيين ، ولكننا نحمل الهوية الأردنية الآن .
كنت أضعك بجوار فراشي عندما سمعت أمي تقول مستدركة :
ـ إننا نحمل الهوية العربية علي أي حال .
التفت يدي حول أحد طرفيك ، واستدعي أبي العجوز كل قوته ووضع طرفك الآخر علي منكبه ، قابضا عليك في حرص ، وتحملت تحمل الأبطال تلك الدلاء المترعة بماء البئر وقد تحلقت حولك ، بعدما عز ماء البلدية ، لنخمد نيران مؤامرة طمس الهوية ، كان الدخان يصارع الريح ، ويستصرخ فينا مستنجدا “أن هلموا لنجدة حرمكم .. فالنار تحت سقف مقدسكم تتلظى التهمت في أحشائها منبر “صلاح الدين” ، وتشتهي البقية ” .. كنت فخورا بك عندما علقت فيك رايتنا ، خافقا بك الهواء :
ـ القدس لنا .. لن ندعكم تزيفون التاريخ .
مات أبي ومن بعده أمي ووجدتني والمقدسيون في يوم وليلة لا نحمل أي هوية عربية .. لم تعد لنا أي هوية ولم يجدوا كلمة تكتب في الهوية سوي مقيم دائم !!
تطرق إليك صوتي ، عندما طوحت بك الهواء ، وأذيال الأمل تعلق في نبرته :
ـ نحن مقدسيون .. ما زال الحرم لنا .
التف طامسي التاريخ ، ومحرفي الكلم حول المقدسيين القابضين علي الحجارة .. وامتزجت الأصوات .. صراخ المدافعين عن التاريخ والأوطان ، وصهيل الخيل وهي ترفع قوائمها لتدك العظام ، وصيحات الجند وهي تتوعد الويل والثبور .. وطغي عليها جميعا صوت معاول الهدم الجبارة وهي تصدع الأرض وتزلزل من تحتها الأقدام .. عدت أحملك وقد طوحت بك في الهواء ، عادت إلي قوتي وشبابي عندما دفعتك أمامي هاجما علي الأنذال .. أدفعهم عن مسري الحبيب وما بقي من هوية .. عن رمق حياتي الأخير .
لم أشعر بالهروات وهي تصب جام غضبها علي ما بقى من العظام ، و تشبثت بك تشبث الغريق .. انتزعوك مني يا قرة العين .. يا رفيقة الدرب وتلقفتك أنياب الجرافة النهمة ، وسمعت أنينك المتكسر وأنا أرنو بعيني الخابيتين المتسرب منهما الحياة .. لألقي نظرتي علي المكان .. راحلا معي صورته الأخيرة في الوجدان .
قصة فايزة شرف الدين

زر الذهاب إلى الأعلى