أخلاق التاجر

بقلم: ا.د / عطية لاشين – أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر

يتضمن الحديث عن هذا الموضوع مقدمة وعدة عناصر وخاتمة.

أولا: المقدمة.

لقد أوجب الإسلام على المسلم الأكل من الطيبات ، وتجنب الأكل من الحرام أو المشتبهات قال الله تعالى : (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ) وقال عز من قائل : (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله ) ولذلك كانت من بين المهام التي بعث من أجلها النبي المختار صلى الله عليه وسلم إحلال الطيبات ، وتحريم الخبائث ، قال المولى القدير :(ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث).

ومن أطيب الطيبات الاشتغال بالتجارة والسعي في أرض الله عز وجل طلبا للرزق الحلال ، ولأن الاشتغال بالتجارة والضرب في الأرض من أجلها من الأمور العظيمة التي أولاها الإسلام أهمية كبيرة قرن المولى عز وجل السعي في الأرض التماسا للرزق بالسفر فيها جهادا في سبيل الله.

post

قال سبحانه : (وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله)٠

ولأن العائد من التجارة المتمثل في ربحها من أطيب الطيب أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عن سؤال وجهه إليه أحد الصحابة حينما سأله عن أطيب ما يأكل الرجل ؟ قال المعصوم صلى الله عليه وسلم : “عمله بيده وكل بيع مبرور”.

ثانيا : عناصر الموضوع هي ما يلي :

العنصر الأول : اشتغال الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجارة ، وبعض أصحابه٠

لقد مارس صلى الله عليه وسلم بنفسه التجارة قبل أن يتنبأ أي قبل أن يكون رسولا نبيا ، فقد تاجر بمال خديجة قبل ان يكون زوجا لها ، وسافر بمالها متاجرا به إلى الشام وأنفذت – أي بعثت معه معه عبدها ميسرة وببركته صلى الله عليه وسلم ربحت التجارة ربحا عظيما، وكان العائد منها وفيرا وشهد ميسرة من بركاته ونفحاته وأسراره ما جعله يحكي ذلك لسيدته سيدتنا عائشة وكان ذلك سببا فيما بعد لقبولها زوجة لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وكان زواجا مباركا ميمونا عاد بالنفع العظيم لصالح الدعوة الإسلامية.

نخلص من ذلك أن من كان عمله التجارة فقد سبقه بالاشتغال بها أعظم وأكرم خلق الله سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كذلك احترف بعض أصحابه التجارة وحذقوا فيها وأقتصر على ذكر اثنين منهم:

النموذج الأول : سيدنا عثمان رضي الله عنه وأرضاه كان من رجالات الأعمال في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام مستثمرا تجارته في الإنفاق من عائدها لصالح الدعوة الإسلامية وفي التصدق بها على أمة الإسلام.
يحكي لنا التاريخ الإسلامي الخالد أن بضاعة قدمت لسيدنا عثمان من خارج المدينة واجتمع عنده تجار المدينة عن بكرة أبيهم كل يعرض على حضرته عرضا مغريا عساه ان يفوز بهذه التجارة فمنهم من كان يقول له نربحك في كل دينار دينارا فيأبى ومنهم من كان يقول له نربحك في كل دينار دينارين والآخر يقول ثلاثة دنانير نربحك إياها عن كل دينار وهو يرد عليهم هناك من يربحني أكثر من ذلك ولا يزالون به حتى أربحوه في دينار تسعة وكل ذلك يقول هناك من يعطيني ربحا أكثر من ذلك حتى يئسوا من العرض وقالوا له كلنا هنا من الذي سيربحك أكثر مما عرضنا حينئذ قال لهم الله أعطاني عن كل دينار عشرة أليس هو القائل: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها) أشهدكم أني أخرجت تجارتي كلها لله هذه صدقة على المسلمين.

والنموذج الثاني الفريد من رجالات الأعمال في عهد النبي المختار : سيدنا عبد الرحمن بن عوف حيث آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين الصحابي الأنصاري سعد بن الربيع فعرض عليه أخوه الأنصاري أن يشاطره في كل ما يملك حتى زوجاته بعد طلاق بعضهن ويتزوجها أخوه المهاجري ولكن سيدنا عبد الرحمن يقابل هذا العرض السخي بعفة ونزاهة وعزة ويقول له : “بارك الله لك في مالك وأهلك دلني على السوق”. فيدله على سوق المدينة ويذهب إليها متاجرا فيها ورابحا من ذلك أرباحاً طائلة حتى غدا من أغنى الأغنياء.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا ما السر في نجاح هذين الصحابيين نجاحاً باهراً فاق كل وصف بل فاق كل خيال ؟؟!

هذا ماسنتناوله في العنصر الآتي :

العنصر الثاني : أخلاق التاجر.

تستوجب التجارة لكي تكون ناجحة على أصحابها المشتغلين بها التخلق بالأخلاق الآتية :منها : الصدق ينبغي على التاجر أن يكون صادقا مع الله أولا ، ومع نفسه ثانياً ومع عملائه ثالثاً.

فإذا كان كذلك لم تكسد تجارته ولمع اسمه في السوق وذاع صيته وقصده العملاء.

يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : “عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال العبد يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا”٠
ومن قبل ذلك قال الله عز وجل : (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

وبخصوص التحلي بصفة الصدق في التجارة يقول المعصوم صلى الله عليه وسلم :”البيعان بالخيار مالم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما”٠

وليست بركات الصدق ثماره اليانعة قاصرة على الدنيا فقط بل تمتد لتشمل أمور الآخرة فإن التاجر الصدوق كما أخبر الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم “يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين”.

ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يحكم بحكم سلبي على التجار فيقول : “يا معشر التجار كلكم فجار إلا من بر وصدق”.

العنصر الثالث : عدم الغش.

يلزم لنجاح التاجر في تجارته ان يكون أمينا فضلا عن كونه صادقا مع كل من يتعامل معه ،وأن يبتعد عن الغش.

يمر صلى الله عليه وسلم على تاجر حبوب وقد جعل الحب المبلول أسفل الحب بينما الحب الأعلى هو الجيد الجاف فيضع صلى الله عليه وسلم يده في الحب حتى تصل إلى أسفله فتصاب يده بالبلل فقال لصاحب الحب : “هلا جعلت هذا عاليا من غشنا فليس منا”.

العنصر الرابع : البعد عن الاحتكار.

على التاجر الأمين الصدوق أن يبتعد بنفسه عن الاحتكار وهو حبس السلع أيا كانت وعدم بيعها أيام الرخاء فإذا شحت في السوق وأصاب الناس شدة أخرجها من مخازنه ليبيعها بأغلى الأسعار لينتفخ جيبه على حساب المستهلكين المضطرين فإن فعل ذلك فقد برئت منه ذمة الله ثم ذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وكان خاطئا اي مخطئا وآثما وعاصيا وابتلاه الله بالأوجاع والأسقام كما شهدت بذلك الأخبار عن النبي المختار صلى الله عليه وسلم.

العنصر الخامس : البعد عن اليمين الكاذبة.

يلجأ بعض التجار إلى أن يحلف أغلظ الأيمان على جودة بضاعته وبقاء صلاحيتها بينما هي ليست كذلك معتقدا ان في ذلك رواج بضاعته وتصريفها وعدم كسادها بينما يكون ذلك سببا في محو بركته ومحقها وعدم رواج تجارته.

روي عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قوله : “ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ومنهم المنفق سلعته بالحلف الكاذب”.

الخاتمة : نختم مقالنا عن أخلاق التاجر فنقول كما يوجد تجار دنيا فيوجد أيضا تجار آخرة حكم الله عليهم بعدم بوار تجارتهم.

قال تعالى : (إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور).

تجار الآخرة هؤلاء وإن اشتغلوا بالتجارة في دنياهم فلن تلهيهم تجارتهم الدنيوية عن التجارة مع الله عز وجل قال تعالى : (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله).

جعلنا الله من تجار الدنيا الأمناء الصادقين غير المحتكرين ومن تجار الآخرة الفائزين بجنة الله رب العالمين.

وكتبه ا.د / عطية لاشين
أستاذ الشريعة بجامعة الأزهر وعضو لجنة الفتوى بالأزهر الشريف

زر الذهاب إلى الأعلى