الصيام والدعاء

بقلم_ د. شعبان عبد الحميد رفاعي

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
فمما لا شك فيه أن للدعاء منزلة عظيمة، ومكانة سامية في الإسلام، وليس أدل على ذلك من أن الله تعالى افتتح به كتابه العظيم، واختتمه به أيضا؛ فأول سور القرآن، سورة الفاتحة اشتملت على أفضل ما يدعوا به الإنسان ربه، وهو الهداية إلى الصراط المستقيم، هذا الدعاء الذي يكرره المسلم في كل ركعة يركعها لله رب العالمين.
وسورة الناس وهي آخر سوره اشتملت على الدعاء المتمثل في الاستعاذة بالله من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس.
ولعظيم قدر الدعاء؛ سماه الله تعالى عبادةً في أكثر من آية، فقال سبحانه:” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ”[غافر: 60]، وقال تعالى على لسان نبيه إبراهيم عليه السلام:” وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا” [مريم: 48 – 49]، وغيرها من الآيات البينات.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:” الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ ثُمَّ قَرَأَ :” وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ” [غافر: 60]
بل سماه الله تعالى دينًا، فقال تعالى:” فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ” [غافر: 65]، والنصوص في فضل الدعاء وعظيم شأنه كثيرة لا تحصى.
أما شهر رمضان المبارك فله خصوصية في الدعاء، ومما يدل على هذه الخصوصية أن الله تعالى ذكر آية الدعاء بين آيات الصيام.
ففي سورة البقرة جاء قول الله تعالى:” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ”[ 186]. متخللا لآيات الصيام؛ فالأية التي قبل هذه الأية هي قوله تعالى:” شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ”، والأية التي بعدها هي قول الله تعالى:” أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ”.
وفي وقوع آيات الدعاء بيت آيات الصيام بهذا الترتيب الحكيم؛ دلالة قوية على أن الصيام والدعاء متلازمان؛ فإذا صام المسلم واجتهد في العبادة زاد قربًا من الله، وإذا زاد قربه من الله استجاب الله دعاءه.
كما أن فيه إرشاد للعباد أن يلحوا في الدعاء ويكثروا منه، كما أنه يبن أن للصائم دعوة مقبولة لاترد كما أخبر بذلك الصادق صلى الله عليه وسلم حين قال:” ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ”، وقال أيضا:” ثلاث دعوات لا ترد: دعوة الوالد، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر”.

ومن أهم ما يلمح في آية الدعاء قوله سبحانه:” وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ” حيث قال فإني قريب ولم يقل فقل لهم إني قريب على خلاف آيات السؤال الواردة في القرآن الكريم والتي أمر فيها نبيه أن يتولي الإجابة، كقوله تعالى:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ” [البقرة: 219]. وقوله تعالى:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ” وقوله تعالى:” يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”.
ففي هذه الآيات الكريمة وغيرها أمر الله رسوله الكريم أن يتولى الإجابة بنفسه بقوله ” قل” أي قل لهم يا محمد كذا.
أما في آية الدعاء فقد تولى سبحانه الإجابة ليبين أنه لا توجد واسطة في الدعاء بين العبد وبين ربه، حتى ولو كان النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن على العبد أن يتوجه إليه سبحانه هو بالدعاء وأنه يقبل دعاءه.
ثم أكد سبحانه إجابة الدعاء بقوله :” أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ” فجعل سبحانه الإجابة مؤكدة حيث لم يعلقها بشيء كما قال في آية أخرى:” بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ” [الأنعام: 14].
أما في قوله تعالى:” إِذَا دَعَانِ” فقد عبر ب”إذا” ولم يعبر ب”إن” لأن “إذا” تفيد الكثرة وتحقق الوقوع بخلاف “إن” فإنها تستعمل للشك المحتمل الوقوع والنادر والمستحيل الوقوع، فدل على أنه سبحانه يريد من عباده أن يكثروا من الدعاء وأن يلحوا فيه، وأنه سبحانه يستجيب لهم.
وبين قوله تعالى” وَإِذَا سَأَلَكَ” و” إِذَا دَعَانِ ” إشارة إلى أن السؤال والدعاء والإلحاح فيه شرط للإجابة والقبول.
وفي قوله:” أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ” ملمحين في غاية الأهمية:
الملمح الأول: أنه سبحانه قال” أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ” ولم يقل أجيب الداع؛ لأن المقصود والمطلوب هو الدعوة، المطلوب أن يرفع المسلم أكف الضراعة بالدعوة لأن الله تعالى يحب العبد الذي يدعوه ويتضرع إليه.
وقد عاقب الله قوما وأخذهم بالعذاب لأنهم لم يتضرعوا إليه عندما استدعى حالهم ذلك؛ قال تعالى:” وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” [الأنعام: 42- 43]، وقال تعالى:” وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ” [المؤمنون: 76].
أما الملمح الثاني: فهو أن الله تعالى قدم الإجابة على الدعاء، وفي هذا دليل قاطع على تحقق الإجابة إذا تحقق الدعاء.
نسأل الله تعالى أن يلهمنا الدعاء، وأن يمن علينا بسرعة الإجابة، والحمد لله رب العالمين

زر الذهاب إلى الأعلى