على الرغم من أنني قرأت مسرحية: “المنعطف الأخير” للدكتور السيد إبراهيم أحمد، عندما صدرت عن “دار حروف منثورة للنشر الإليكتروني”، إلا أنني لم أكن قد شاهدتها حين تحولت لعرض مسرحي سواء في الجزائر أو سلطنة عمان، وشاهدتها هذه المرة عندما تم اختيارها لتعرض في أكاديمية الفنون ـ المعهد العالي للفنون المسرحية بمصر، وأجمل ما في العرض أنه لم يجنح لمناقشة الجدلية الكبرى التي تلازم البشر على اختلاف مجتمعاتهم ألا وهيَّ الصراع الدائر بين الغني الجامح والفقر الجائح، ورصد هذه الفجوة الظاهرة بين الطبقة البرجوازية عمود المجتمع وسنامه، وطبقة الملاك من السادة الذين أسلم لهم الواقع خطامه، وتملكوا أدواته، بل عمد إلى الهدف الخفي الذي تدور حوله المسرحية في جوهرها وهي جدلية الحياة والموت في الأساس، وكيفية التعامل البشري معها، غير أن هذا لا يمنع أنها تناقش في نفس الوقت الغني والفقر كرمزية لكثير من المجتمعات في دول العالم أيضا.
إن النص المسرحي المقروء ثري في أفكاره التي تدور في أجواء الاقتصاد، والاجتماع، والسياسة، والفكر الديني المتعلق بالتفكير فيما وراء الحياة، وكذلك الحياة الاجتماعية، والصراع بين الطبقات، وقد لجأ الكاتب في نصه إلى انتهاج “المسرح الفقير” بشكل عام في الديكور، غير أنه ترك الحرية لغنى الديكور أو فقره تبعا للإمكانيات المادية لكل من يريد التعامل مع النص، ولقد نجح الكاتب أن يفلت الكاتب من واحدية المكان والزمن بالاستعانة بكوميديا الموقف التي تواكبها بعضٍ من العامية الراقية التي تصنع التناقض وتنميه، وحوارية تعري المجتمع عندما تناقش الواقع ثم تقدم بعض الحلول، فكانت المسرحية أشبه ما يكون بــ “فانتازيا” خلَقتها الوقائع التي فاقت الخيال، وقد يصنفها بعضهم ضمن “البلاك كوميدي” لتضافر الطبيعية بالواقعية فيها معًا.
والمسرحية تتوازى مع فاوست جوته وعَقْدِه مع الشيطان الذي انتهى به إلى الضياع بقدوم “ميفستوفيليس” ليأخذ روحه، ولم يشفع له الندم والبكاء والحوار، بيد أن البطل في العمل الذي نحن بصدده يأتي مغايرًا لفاوست؛ فلم يستسلم ــ رغم انحرافه الجزئي القسري ــ لشهواته وتطلعاته، وأن الحوار قد يفلح مع الشيطان.. أما “الموت/المنعطف الأخير” في حياة الإنسان فلا يفلح معه تلك المحاولة.
لقد استطاع المخرج أيمن مرجان في خلق التوازن بين النص المقروء والمعروض، باعتبار التوازن ملمحا من ملامح الإعداد النظري في الأعمال الفنية، الذي يكمن في التوازن المادي والجمالي من خلال السعي إلى توزيع شخصيتي العمل في معادلة بصرية من حيث وضعياتها ووقوفها وتجسيدها على المسرح، ولقد نجح في أن يوظف جميع عناصر العرض المسرحي بطريقة توحي بالجمال، حين أضاف إلى العرض بعض المؤثرات الخارجية كتوظيفه لصوت حادث ارتطام السيارة، ونباح الكلاب، وصوت الرضيع، وقد عكست الإضاء بتنوعاتها اللونية المختلفة الأجواء النفسية لبطلي العمل، وفتحت مجال التأثير لتتشابك معها وتتفاعل عيون المتفرجين، ولهذا فقد صنعت الإضاءة مع الموسيقى المختارة بعناية، أكبر الأثر في إضفاء الحيوية والجمال على العرض.
وقد اتسم ديكور هذا العرض بالبساطة، والتوزيع الجيد على خشبة المسرح، وقد اتسمت بألوانها الجذابة التي أضفت نوع من الجمال الذي كمن في البساطة، وفي توظيف ديكور واقعي لا حاجة للعرض بديكور أكثر منه، فقد فطن المخرج وفريق العمل إلى أن المسرحية تثري الخشبة وعيون وقلوب المشاهدين بفكرها، وحوارها، وإتقان الممثلين، وحركتهم على المسرح.
كما أبرز المخرج القيم الجمالية في حركة الممثلين، وقد استطاعا أن يقوما بدوريهما بأداء متقن، وبشكل جيد فكان الأداء بوجه عام يستحق الإشادة، ويحسب للمخرج سيطرته على الإيقاع العام للعرض، وجاءت أكثر العناصر إبرازا هي قيمة الانسجام والتناسق بين عناصر العرض المسرحي، وتوازنه مع النص، من حيث فهمه لأبعاده، وكلماته، ومفرداته الخفية والعلنية. ذلك أن نص “المنعطف الأخير” يتمتع بكل مقومات المسرح الناجح من حيث تسليطه للضوء على فكرة فلسفية إنسانية عميقة تتماهى مع كافة البشر أيا كان مكانهم ومكانتهم، وديانتهم، وجنسياتهم، وألوانهم، وهو ما يلمسه المتفرج في: