تنمية الجانب الأخلاقي عن طريق الأوامر الأمر بالعدل مع المسلم وغيره

محمد حامد محمد سعيد

العدل خلق من أخلاق الأنبياء والرسل وُصفوا به من خلال أقوالهم وأفعالهم، فما بعث الله تعالى نبيًا ولا رسولًا إلا وكانت صفة العدالة متحققة فيه من خلال أقواله وأفعاله، ففي القرآن الكريم نقرأ النداء الإلهي بالأمر بالعدل في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(المائدة:8).

فالآية المباركة فيها نداء من الله تعالى على عباده المؤمنين بالأمر بتحقيق العدل حتى في لحظات العداوة، فالعداوة لا تمنع المسلم من قول الحق وتحقيق مبدأ العدل حتى مع غير المسلم نفسه، وقريب من هذا المعنى نرى أن الله تعالى:”أمر بالعدل في كل أحد القريب والبعيد والصديق والعدو، وتصريح بوجوبه بعدما علم من النهي عن تركه التزامًا،(هو) أي العدل المدلول عليه بقوله اعدلوا(أقرب للتقوى) التي أمرتم بها غير مرة أي أقرب لأن تتقوا الله أو لأن تتقوا النار”، يقول الطاهر بن عاشور:”وقد حصل من مجموع الآيتين: وجوب القيام بالعدل، والشهادة به، ووجوب القيام لله، والشهادة له”.

ليس هذا فحسب بل ورد الأمر الإلهي القرآني بالعدل والإحسان على سبيل العموم والشمول وذلك من خلال قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ….}النحل:90، فنلاحظ في الآية أنها جاءت بعدة مؤكدات منها تأكيد الجملة بإنَّ المشددة التوكيدية، ثم إسمية الجملة، ثم جاء اتفاق العلماء من البلاغين والمفسرين جميعًا على أن:”هـذه الآيـة أجمـع آيـة في القـــرآن للخــير والشــر وهي قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ}وقد اشتملت في الواقع على أفانين من البلاغة نبينها فيما يلي:

1-الإيجاز: فقد أمر في أول الآية بكل معروف ونهى بعد ذلك عن كل منكر، وختم الآية بأبلغ العظات وصاغ ذلك في أوجز العبارات.

post

2- صحة التقسيم: فقد استوفى فيها جميع أقسام المعنى فلم يبق معروف إلا وهو داخل في نطاق الأمر، ولم يبق منكر إلا وهو داخل في حيز النهي، وقدم ذكر العدل لأنه واجب وتلاه بالإحسان لأنه مندوب ليقع نظم الكلام على أحسن ترتيب، وقرنهما في الأمر لأن الفرض لا يخلو من خلل وتفريط يجبره الندب والنوافل وخص ذا القربى بالذكر بعد دخوله في عموم من أمر بمعاملته بالعدل والإحسان لبيان فضل ذي القربى وفضل الثواب عليه.

3- الطباق اللفظي والمقابلة بين يأمر وينهى وبين العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وبين الفحشاء والمنكر والبغي.

4- حسن النسق: في ترتيب الجمل وعطفها بعضها على بعض كما ينبغي، حيث قدم العدل وعطف عليه الإحسان لكون الإحسان اسمًا عامًا وإيتاء ذي القربى خاص فكأنه نوع من ذلك الجنس، ثم أتى بجملة الأمر مقدمة وعطف عليها جملة النهي.

ونلاحظ أن العدل هنا ليس قاصرًا على المسلم وحده وإنما الآيات الكريمة وردت في سياق العموم والشمول، فهي تشمل المسلم وغير المسلم، وفي القرآن الكريم بعض الآيات الكريمة الدالة على البر والإحسان وتحقيق العدل مع غير المسلم، ومن المعلوم أن البر والإحسان أعم من العدل، وذلك لكون العدل إعطاء كل صاحب حق حقه، أم البر والإحسان فهو الإعطاء بزيادة وسخاء وفضل، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى:{لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(الممتحنة:8 ،9)

يقول د/طنطاوي في تعليقه على الآية السابقة:”الآية الكريمة بشارة عظيمة للمؤمنين، بأنه سبحانه كفيل بأن يجمع شملهم بكثير من أقاربهم الكافرين، وبأن يحول العداء الذي بينهم، إلى مودة ومحبة، بسبب التقاء الجميع على طاعة الله تعالى وإخلاص العبادة له…..والذي تطمئن إليه النفس أن هاتين الآيتين، ترسمان للمسلمين المنهج الذي يجب أن يسيروا عليه مع غيرهم، وهو أن من لم يقاتلنا من الكفار، ولم يعمل أو يساعد على إلحاق الأذى والضرر بنا، فلا بأس من بره وصلته، ومن قاتلنا وحاول إيذاءنا منهم فعلينا أن نقطع صلتنا به، وأن نتخذ كافة الوسائل لردعه وتأديبه، حتى لا يتجاوز حدوده معنا….فالله تعالى يحب العادلين في أقوالهم وأفعالهم وأحكامهم، الذين ينصفون الناس، ويعطونهم العدل من أنفسهم، ويحسنون إلى من أحسن إليهم”.

وفي المسألة الثانية عند تفسير قوله تعالى:{وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}النساء:58، نقرأ كلام العلامة فخر الدين الرازي حيث أجمع العلماء على:”أَنَّ مَنْ كَانَ حَاكِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} وَالتَّقْدِيرُ:إِنَّ اللَّه يَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ”.

إن التخلق بخلق العدل أمر مأمور به كل من وليّ شيئًا من أمور الأمة، لا خلاف بين مسلم وغيره، فالعدل لا يُفرق به بين هذا وذاك، حيث إن الكل أمام مبدأ العدل سواسية، ولذا جاء التعبير القرآني بلفظ “الناس” الذي يفيد العموم والشمول ولم يقل المؤمنين أو المسلمين.

وأختم مقالي هذا بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية:”إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَنَازَعُوا فِي أَنَّ عَاقِبَةَ الظُّلْمِ وَخِيمَةٌ وَعَاقِبَةُ الْعَدْلِ كَرِيمَةٌ، وَلِهَذَا يُرْوَى: اللَّهُ يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يَنْصُرُ الدَّوْلَةَ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُؤْمِنَةً”.

يتبع في المقال القادم إن شاء الله.

 

زر الذهاب إلى الأعلى